شَيّبتْهُ الوقائعُ
كثيراً ما يقع المرء أسيرَ أمرين، أو يجد نفسه على مفترق خيارين، يشده أحدهما إليه إذا ما استعمل حجاه وتفكيره الفطري السليم، والآخر يشدُّ بقوّة بفعل قوّة جذب الأهواء والميول، وقشور الاستشارات وتسطّح الدالّين والمشيرين، خاصةً في المراحل المفصلية من عمر الإنسان وما يعتريها من تغيّرات في الشكل وتأثيره على السلوك المفترض، كما في أول شعرةٍ تشيب، وتتلوها شقيقاتها بتسارع يُلحظُ كلَّ يوم، فلنتمعّن بهذين البيتين، وما فيهما من إشارات، ولنُحَكّمن النّهى ونسأل أنفسنا: إلى أيِّ الأمرين ننصاع؟ لأمر الواقع وما يفتح للعاقل من آفاق، ذلك المُحكم المرسوم بريشة المُبدِع الخلّاق، أم لأمر الخلائق ذوات الأقوال الهارفة، المفتونة بالمظاهر الزائفة، يجيبك الشاعر شميم الحلي:
أقولُ لآمرةٍ بالخضابِ تحاولُ ردَّ الشبابِ النَّضيرِ
أليسَ المشيبُ نذيرَ الإله ومَنْ ذا يسوِّدُ وجهَ النذيرِ؟!
للشيب إذاً إشاراتُه وسماتُه، وله دلائلُه ومعانيه، فمنهم من ينظر إليه متحسّراً على أيام الصبا والشباب دون أن يضادَّ أو يعاكسَ طبيعة الأشياء، ومنهم من يعاندُ ويكابر فيلجأَ إلى سراب الخديعة ليخدعَ نفسه أوّلاً ممثلاً على الآخرين بخضابٍ يزوّرُ به حقيقةَ حالِه، ومن الناس من يُسعَدُ بذلك فيسلّمَ لحقيقة الشيب الجميل وضياءِ تجاربه الزاهرة قيادَ نفسه، أليس من الحكمة أن ننظرَ إلى الشيب نظرةً ملؤها البهاء، على خُطى الأعمى ذي البصيرة، فلننظر إلى أبي العلاء:
الشيبُ أبهى من الشبابِ فلا تهجِّنْهُ بالخضابِ
وماذا يمكن القول فيمن أو نرجو ممن قضى شبابَهُ جميعاً عصيّاً على قبول الرشاد، سالكاً طريق العناد، وقد أعيا رهطه وأهل النصح له، فكيف وقد بلغ من العمر مبلغاً وجد نفسه فيه وقد فقد كثيراً مما كان يعتدُّ به زمن الصبا، للشاعر النميري توصيفٌ لطيفٌ لأحوال أخي الشيب في نظرة الكواعب الحِسان إليه، يقول:
أخو الشيبِ لا يدنو إلى الحُوْرٍ بالهوى
ليقربَ، إلّا ازدادَ في قُرُبٍ بُعدا
وأختم بعروة بن الورد، شاعرٌ ضالّتُهُ لقمةُ العيش، بقوةُ المنصف لا قوّةُ المحيف:
فما شابَ رأسي من سنينَ تتابعت
طوالٍ، ولكنْ شيّبَتْهُ الوقائعُ !