إن تقسيم شعوب الأرض إلى (ساميين وآريين وحاميين) يستند فقط، على ما جاء في التوراة، وعلى الرغم من النفي العلمي لصحّة هذا التقسيم العنصري، وعلى الرغم من الإقرار بنفي الصفة التاريخية عن التوراة وجعلها مجرّد نصوص ميثيولوجية, فإن الباحثين الأوروبيين عموماً، وفي طليعتهم البريطانيون واليهود، رسّخوا المزاعم التوراتية القائمة بهذا الشأن، مع الانتباه إلى أنّ التفريق المعتمد بين ما يزعمون أنه سامي وما هو آري، قائم أساساً على نظام اللغة التي احتكر الأوروبيون مجمل الخبرات والمعارف المتعلقة بلغاتنا المشرقية القديمة، فجعلوا السومريين، والميتانيين، والحثيين، والفرس, والآخيين، شعوباً آرية، وجعلوا الباقين ساميين، كالبابليين، والآشوريين، والأكاديين، والعرب والفينيقيين، ولا مشكلة من الناحية الظاهرية في هذا التقسيم لو لم يكن منحدراً انحداراً مباشراً من موقف عنصري لئيم، يعكس حرص الأوروبيين على اغتصاب التاريخ وسرقته، والاستيلاء عليه، بالتوازي مع اغتصاب الجغرافيا واستلابها في عصر الاستعمار الغاشم البغيض.
يعدّ اختراع الكتابة مفصلاً حاسماً معتمداً للتفريق بين عصور ما قبل التاريخ، والعصور التاريخية التي بدأت مع اختراع الكتابة، ولأنّ الكتابة منجز سومري غير مسبوق في أي بقعة جغرافية أخرى، بحسب المكتشف إلى الآن، جزم البريطانيون بأن السومريين شعب آريّ جاء إلى الفرات الأدنى من البحر، و المؤسف الفادح في هذا السياق أننا نفتقر إلى وجود من يتقن قراءة النصوص القديمة على اختلاف لغاتها، ولهجاتها، ولذلك لا نزال نتّكئ على المنجز الأوروبي في معرفة تاريخنا القديم، فما يقوله الأوروبيون عن السومريين، وعن سواهم من الأقوام المجاورة في الزمان والمكان نأخذه على عواهنه، لأننا لا نملك من وسائل الاختبار الحاسم لما يزعمه الأوروبيون سوى الوسائل والمنجزات الأوروبية ذاتها.
بعض ما هو متاح في استعراف تلك الآلاف من السنوات المدحورة إلى ما قبل الميلاد لا يزال متاحاً عبر امتلاك الخبرة المناسبة لقراءة نصوصها الوفيرة، والأوروبيون يرون أنّ الخبرة الخاصة بقراءة اللغات القديمة خبرة مندرجة ضمن (الأسرار العلمية) التي يجب احتكارها، وإبقاؤها في حيّز السرية والتعتيم، غير إنّها أسرار يمكن النفاذ إليها عن طريق الأوروبيين أنفسهم، أو عبر اعتماد الطرق التي اعتمدها الأوروبيون للنفاذ إلى غياهب تلك اللغات، وبعض المتاح أيضاً قائمٌ في إخضاع الترجمات الأوروبية للغاتنا القديمة إلى سلطان العقل النقدي، والتأمّل العميق، واختبار الترجمات على محك الإيقاع المنتظم، أو شبه المنتظم لحركة التاريخ ضمن الجغرافيا المترامية في مجمل المنطقة التي تؤطر المتوسط.