يروي الكاتب بأناة، حكاية صحفية تعمل في الصحافة الأدبية، ويبدأ من لحظة متأخّرة في حياتها! تعيش وحيدةً، على مكتبها عشرات المقالات التي لم يتمّ تنقيحُها وإرسالُها، والتلفزيون يواصل إرسالَه، أخبارُه الأساسيّة عن موجة القيظ التي أودت بحياة المئات من المسنّين والمُشرّدين، وهي تتابع الموت من نافذتها، عبر رصد ورق الشَّجر المتساقط وجثث الشحارير النّافقة، حتى تلمح طيف امرأة غامضة يعبر ممشى شُقّتها! وعلى طيف هذه الدّخيلة، ستُحمل الأحداث المتتابعة التي تحبس الأنفاس، وتشوّش الانتباه!
الشرطة تحضر بعد كلّ اتصال استغاثة، تفتّش وتتقصَّى أثرَ الدّخيلة، بينما يجري الحدثُ الرّوائيّ الأعمق في داخل الصحفيَّة المسنّة، فهي قلقة بلا هوادة، ثمّ يتحوّل القلق إلى رعب لا يبدّده تغييرُ مفاتيحِ الأقفال، ولا حضور الشُّرطة حين الطّلب، ولا وقوفُ الزّوج المسافر على عتبة الباب بشكل مفاجئ، خاصّة حين تجده بلا حقائب، هو المسافر إلى “الشرق الأوسط” مراسلاً صحفياً، وتزداد حنقاً وغضباً حين يأتي مرّة ثانية بصحبة شابّة وطفلين، فتسأله إن كان يرغب بإنجاب الأطفال منها، مستبعدةً احتمال أن تكون الشّابّة تخصُّه، فيقول لها بهدوء يقارب البرود: هذان ولداي! عندها تنفجر كالبركان وتطرده من المنزل وترفض استقبالَه والردّ على هواتفه، وتقول للطَّبيب الذي جاء لإقناعها بالذّهاب إلى المصحّ، إنها لن تسمح له بالاستيلاء على بيتها والسّكن مع تلك ” الغريبة ” التي سرقته منها وأنجبت له ولدين! وحين يواصل الطّبيب إقناعها بصبر أنها تحتاج لعناية وراحة كي تكمل مقالاتها وتبعث بها إلى دار النّشر، تجيبه بعناد: خذوني بالقوّة، منذ الآن سأغيِّرك! سأغيّر طبيبي!
ببراعة، يأخذ الرِّوائيّ قارئه إلى الواقع المرير الذي تعيش فيه الصّحفية، ويزيل الانطباعات التي رسمها تحت البصر المتسرِّع، فهي تقابل ابنها وليس زوجها الذي توفّي في مصر منذ ثمانيةٍ وعشرين عاماً، وليست “الدّخيلة” التي لم تجرؤ على البوح للشرطيّ أنها تشبه أمّها، حتى لا يظنَّ أنها مجنونة، إلا من انبعاثات الماضي التي سبَّبت لها التّشويش من مرض الزهايمر الذي يواصل تفتيت ذاكرتها وتمزيقَ روابطها مع الواقع!
وراء كلِّ هذه الأحداث الرّوائيّة، يشمُّ القارئ غمامة مسكٍ واهنة فيها محبّة للعرب، فالشّابة الكنّة، اسمها ياسمين، وهي سمراء أنيقة، يجلّلها الكاتب بالرقّة الإنسانيّة، أما التلفزيون الذي تنقِّل محطّاتِه، فيعبر على فضائيّات عربيّة، تعاتبها وهي في قلب أحزانها، لأنّها لا تهتمُّ كثيراً بالشُّؤون الأوروبّيّة، بينما تحضر مصر كأحد أمكنة الأحداث حضوراً لافتاً!
حين بحثتُ، خارج الرّواية، عن الكاتب الفرنسيّ “إيريك إيمانويل شميت” عرفتُ أنّ من أشهر أعماله: “السّيِّد إبراهيم وزهور القرآن” وأنَّ نزعته الإنسانيّة اتّسعت في كتاباته المؤسَّسة على دراسة الفلسفة، لتكتب عن الشُّعوب بهذه المحبّة، هو الذي لم يُكثر الكلام، بل قال بضع كلمات، كانت مفتاحاً للبحث عنه في مجاهل الإبداع الواسعة، لمعرفته بشكل أعمق!
حقّاً، المحبّة لا تحتاج إلى كثير الكلام، بل إلى كلمة أو اثنتين…