فضائل العزلة!

وضعتُ، بعد هذا الشهر من الحجر، صورةً لي بذقن طويلة وشعر ملبّد وعينان ناعستان كبروفايل جديد على الفيسبوك. فتتالت اللايكات والتعليقات المُحبة والقلوب الملونة وباقات الورد وكلّها غمرتني وجعلتني أسبح في غيمة أفكار وتخييلات ممتعة. وفجأة تعلّق صديقة: “أهذا أنت؟”. يضحكني السؤال ثم يغضبني ثم يتركني حائراً. فعلاً من أنا؟ أي سؤال مؤرّق هو هذا الذي عذّب سقراط ولا زال يعذبنا جميعاً على ما أظن مثل شوكة تحت الجلد؟
لكنني وبلمسة الواقعية السحرية التي أستعيرها من صديقي ماركيز وبحيلة الرواة في الأساطير أُمسرِحُ ملحمتي الشخصية: أصبح جلجامش وإنكيدو معاً. أهزمُ حارس الغابة العملاق. أغلبُ الثور السماويّ الذي بنفخةٍ واحدة يشقُّ قبراً يتسع لمئة رجل. بعيداً عن واقع لست فيه أكثر من كائن عادي جداً أغالبُ الزمن لأحصل على مخصصاتي من البطاقة الذكية
ثم تعلّق صديقة أخرى بمحبة وتقول: “كأنك سمنان”…
وتتركني أفكّر: يبدو أن المسألة في الحقيقة لا تزال: إما أن تكون فماً أو لُقمةً؛ إما صيّاداً أو طريدةً. وأننا لا زلنا منذ أن يتنفّسَ الصباحُ إلى أن يُعسعِسَ الليلُ نركضُ مثل الطرائد أمام غول الغلاء وثعالب الاحتكار. نهرول من الجائحة اللعينة لنقع في مصيدة الديون أو في مخالب اللئيمين. وحين نسأل أنفسنا من نحن؟ نكتشف أننا لا زلنا مستهلكون في عُرف التجار، بيادق في عرف صانعي الحروب والمجاعات، كؤوسٌ يملؤها المنظّرون بالإنشائيات والمصطلحات. كأننا غرقى في متاهةٍ تسمى: الحياة اليومية؛ مَن هم داخلها خائفون مما يحضّر لهم المجهول من مكائد. ومن اعتزلوها يصرخون: نحن مجرد غبار كونيّ وعدم.
وبقيت أغالب النوم فيما غيمة عزلتي الهنية؛ غيمة تباعدي الاجتماعي تهديني ما غنّته أم كلثوم:
“لا تشغلِ البال بماضي الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان واغنم من الحاضر لذّاته فليس في طبع الليالي الأمان. بصحتكم.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار