غايتان لإنتاج التشكيل الوجيز.. اللوحة الصغيرة كمساحة للفنون البصرية..
تشرين- علي الرّاعي:
تماماً كما وصلت إليه الحال لدى الكثير من كتّاب القصة والرواية، وكذلك عند الشعراء، في هذا الميل لإنتاج النص القصير حتى في الفيلم السينمائي، وإن استقر الحال بالمسلسل التلفزيوني عند الثلاثين حلقة كما “أوصت” بذلك المحطات الفضائية الشارية والمنتجة، مع إن ثمة زحزحة لهذه الثلاثين نزولاً صوب “العشاريات”؛ غير أن التشكيليين هم أيضاً وصلتهم عدوى الإنجاز القصير، ومنذ زمن بعيد إلى حدٍّ ما، فقد درجت أكثر من صالة تشكيلية على تقديم اللوحة الصغيرة، منها صالة الشعب التابعة لاتحاد الفنانين التشكيليين السوريين على سبيل المثال، فقد فعلتها أكثر من مرة، وثمة صالة أخرى هي (الفري هاند) قبل أن تغلق أبوابها خلال سنوات الحرب على سورية، وكذلك فعلتها (صالة كامل)، أكثر من مرة حيث قدمت النتاج التشكيلي (الوجيز) إن صحت استعارة المصطلح من الأدب..
غايتان للتشكيل الوجيز
غير أنه في فضاء التشكيل فقد اختلفت الآراء حول الباعث لإنتاج اللوحة الصغيرة منها على سبيل المثال: طبيعة البيوت الحديثة التي مالت هي بدورها إلى الصغر، ومن ثمّ فإنّ جدرانها لم تعد تتحمل فضاء اللوحة الكبيرة والجدارية التي صار مكانها المناسب بهو الفنادق وجدران المتاحف والمؤسسات والصالات الكبيرة، وغيرها..
وثمة باعثٌ آخر يراه الكثيرون أنه يكمن في الجانب التسويقي، باعتبار الشاري للوحة ليس بإمكانه شراء اللوحة الكبيرة، وغير ذلك من “البواعث”..
لكن لجهة الشغل الفني – وهذا ما يهمنا في هذا الحديث- فقد ماثلت اللوحة الصغيرة ما انسحب عليها من الأجناس الإبداعية الأخرى ولاسيما من الأدب كما في القصة القصيرة جداً، أو القصيدة الومضة، وحتى بكثافة الفيلم السينمائي القصير.. وإن كان هنا الأمر يختلف قليلاً إذ إنّ الموضوع هنا لم يكن هو من يُقرر المساحة كما في الأجناس الإبداعية في الأدب على سبيل المثال، وأنما كانت المقدرة المهنية والاحترافية للفنان التشكيلي في طرح الموضوع ذاته مرةً بصورة كبيرة، وأخرى بصورةٍ صغيرة من دون أن يغيّر أمر المساحة (الكبر والصغر) في شيء من الجماليات البصرية أو الفكرية للوحة التشكيلية، وثمة فنانون يؤكدون إنّ إنتاج اللوحة الكبيرة – ربما – يكون أسهل من إنجاز اللوحة الصغيرة..
مشاركة الأنواع الأخرى
لكن الأمر يتفق مع تلك الأجناس الإبداعية التي تميل إلى القصر في الوصول للحالة الإبداعية بشكلٍ أسرع، تماماً كما فعلت القصيدة القصيرة عندما أراحت القارئ من عناء قراءة كامل القصيدة ليصل إلى “بيت القصيد” هنا أيضاً وصل متلقي اللوحة إلى “بيت التشكيل” بالطريقة ذاتها، مع إنّ اللوحة الصغيرة تخلقُ حالةً من الحميمية أثناء إنجازها كما يذكر عدد من الفنانين قد لا تتوافر عند إنجاز اللوحة الكبيرة، بل ثمة الكثير من الفنانين التشكيليين قد لا يستطيعون الانسجام مع عملهم إلّا أثناء تنفيذ اللوحات الكبيرة، لكن كلتا اللوحتين الكبيرة أو الصغيرة – تبيّن أنها تحتاج الأشياء ذاتها من الفنان: الومضة المبدعة، والتمكن من التقنية، والقدرة على صنع مناخٍ لوني، وبصري يستطيع التأثير بالمتلقي، ومُشاهد اللوحة..
بعيداً عن الماكيت
تتوفر في لوحات معرض اللوحة الصغيرة العناصر الفنية كافة من حيث التكوين، والتشكيل، وليست “ماكيت” كما عند الكثير من الفنانين ينتجون اللوحة الأكبر، وقد نتفاجأ أحياناً بلوحات عالمية كنا نظنها أنها كبيرة الحجم لشهرتها، وإذ هي في الحقيقة لوحة صغيرة، فـ(الجوكندا) – على سبيل المثال – التي جسدّت ذلك الوجه الأنثوي الذي حيّر النقاد في تفسير ملامحه إن كانت باسمة أم عابسة، فأبعادها على سبيل المثال تتراوح بين (50و70سم).. حتى إن فناناً مثل (فان غوغ) كانت أهم لوحاته أبعادها بين (30و 40سم)..
ما أريد قوله؛ إنّ الوجيز في الأدب، ينسحب إلى الفنون كافة، البصرية والسردية.. وليس لأننا في عصر السرعة، ذهبت الفنون صوب هذا (الإيجاز) كما يُفسر الكثيرون.. أبداً، ذلك إنّ مثل (بيت القصيد) كهذا، كان قديماً قدم الإبداع نفسه.. لكن ما جعله يكون الكثرة، أو ينال الغلبة على ما سواه اليوم؛ فهي الحوامل الجديدة للإبداع، التي سرعت بدورها اللجوء إلى التكثيف، كما أنّ متلقي اليوم ليس لديه الطاقة ليتابع الأعمال الطويلة والكبيرة، أي ليس له “النَّفَس، ولا النَّفْس” لمثل هذا “التذوّق” الذي يحتاج للنفس الطويل!!