هل النقدُ قيمةٌ مضافةٌ للأعمال الإبداعية أم مجرّد انطباعاتٍ وكلامٍ في الهواء؟!
تشرين- جواد ديوب:
كيف ينظر بعض الكتّاب والنقّاد إلى أهمية النقد كنصٍّ يُعطي قيمة مضافة إلى الأصل؟ وهل يتفقون مع عبارة شائعة تقول: “إنّ الناقدَ كاتبٌ فاشل”؟! بمعنى أنَّ الناقدَ يحاولُ الوصولَ إلى “مرتبة الكاتب” لكنه عاجزٌ عن فعل ما يفعله كاتب النص المنقود؟ وبماذا يختلف النقد عن الانطباع الذي تتركه مُشاهدةُ مسرحية أو لوحةٍ تشكيلية أو قراءةٌ لنصٍّ إبداعيٍّ ما؟
د.سعد الدين كليب: للنقد في علاقته بالأدب أهمية لا يمكنُ إلغاؤها أو التقليل منها
مواقف متباينة
“تشرين” استطلعت آراء بعض الكتّاب والباحثين فكان أنْ خصّنا الدكتور سعد الدين كليب/أستاذُ الأدب الحديث وعِلم الجمال في جامعة حلب برأيه فقال:
“بصرف النظر عن مواقف الأدباء المتباينة جداً تجاه النقد والنقّاد، فليس من شك في أنّ للنقد في علاقته بالأدب أهمية لا يمكنُ إلغاؤها أو التقليل منها سواء أكان ذلك في بيان القيم الجمالية والفنية والأسلوبية والثقافية للأعمال الأدبية، أم في بلورة النظرة الجمالية العامة حول هذا الأديب أو ذاك، أم في إشاعةِ ذوقيّةٍ أدبيةٍ عامة لدى القراء والمتلقّين في هذه المرحلة أو تلك، وذلك من خلال تعميق الوعي الجمالي بالأدب والنقد معاً، أي إنّ أهمية النقد لا تنحصر في الأعمال الأدبية والأدباء وإنما تمتدّ لتشمل قراء الأدب والمهمتين به.
مدحٌ وقدحٌ!
ولكن كما أنّ الأدباء فئات وشرائح ومستويات وتيارات كذلك النقاد -يتابعُ الدكتور كليب كلامه- فمنهم من لا يعرف من النقد إلا المدح والقدح، ومنهم من لا يقيس إلا بالمسطرة، ومنهم من يمتلك من الذوق ما يكفي ولكنه لا يمتلك الأدوات النقدية الكافية، كما أنّ منهم من يتحزّب لنمط محدد من الأدب موبّخاً ما عداه من الأنماط…إلخ. وأمام مثل هذه الشرائح من النقد والنقاد وكذلك الأدباء، من البدهيِّ أن ترتفع وتيرة الخلاف والصراع وتراشق الاتهامات بين الأدباء والنقاد، ومن البدهيّ أن يقال إنّ الناقدَ أديبٌ فاشلٌ، أو أن يقالَ عن أحد الأدباء لا قيمة له وأنه يدّعي ما ليس له!
هنالك خلطٌ عجيب بين النقد الأدبي الحقيقي وبين الآراء الشخصية التي تتزيّا بزيّ النقد
ذوقٌ وعِلم!
كما يرى الدكتور كليب أنّ العملية النقدية خارج تلك التركيبة من القدح والمدح والردح، هي عملية مركّبة من الذوق والعلم، ومن الاستقراء والتحليل، والاكتشاف والتقويم، وفق منهجية موضوعية قدر الإمكان، إنها عملية تحيطُ بمجمل جوانب النصّ بحسب المنهجية المتّبعة، وهو ما يجعل الأحكام النقدية مبنية على أسس محدّدة، لا على ذوق شخصي صرف، ولا على علاقة شخصية ولا على موقف مسبّق من الأديب مهما يكن ذلك الموقف.
أريد أن أقول -ينهي الدكتور كليب مداخلته- “إنّ هناك خلطاً عجيباً بين النقد الأدبي الحقيقي وبين الآراء الشخصية التي تتزيّا بزيّ النقد، أو لنقل لاصلة للنقد الأدبي بالعرض الصحفي أو الانطباعات الذوقية أو الأحكام العامة أو غير المعلّلة التي نواجهها هنا وهناك في بعض الصحف والمجلات، بل حتى في بعض الكتب التي تزعم الانتماء إلى حقل النقد، مع التذكير أنّ التساوق بين الأدب والنقد قديمٌ قِدمَ التفكير الفلسفي بالرغم من اختلافهما في طريقة الوعي والأداء”.
الشاعرة لجينة نبهان: يستطيع الناقد أن ينتج نصاً موازياً جمالياً للنص الأصلي وأن يبدع في اجتراح أدوات نقد جديدة
حالةٌ تكامليةٌ تفاعلية!
فيما رأت الشاعرة لجينة النبهان أنّ: “النظرة العامة للعلاقة بين النص الأدبي والنقد ربما تنطوي على شيءٍ من التعالي، ليس فقط مِن صاحب النص الأصلي أو المؤلف على اعتبار أن النص هو الأصل وهو الذي يُبنى عليه النقد، بل من قبل الناقد أيضاً والذي كثيراً ما يشعرُ بوصاية على الكاتب، ويفرض فهمه الخاص للنص، بل ويرى في نفسِهِ عبورَ النصِّ إلى الضوء!
من جهتي أرى -خلافاً لتلك النظرة المتعالية- أن الحالة التكاملية التفاعلية بين الطرفين هي السِّمة الصحية والصحيحة التي يجب أن تسم هذه العلاقة والتي ومن خلالها يتحقق الهدف الأساسي والسامي لظهور النقد كنوع أدبي جاء متأخراً نوعاً ما عن النتاج الإبداعي، وتكمن هذه الأهداف التي أدت إلى ظهور النقد في تقويم العمل الإبداعي ورعايته وتفكيكه وتسليط الضوء عليه من كل جوانبه بهدف النهوض به وإطلاقه وحثّه على تجاوز نفسه تطبيقاً لمقولة “إن على الكاتب أنْ يقتلَ نفسه في عمل جديد معلناً ولادةً جديدةً له”.
أفقٌ أوسع!
وللوصول إلى تلك الأهداف تعتقد الشاعرة النبهان أنه يجب التأكيد أيضاً على نوعية النقد الذي يحقق ذلك، فلا يكون النقد من أجل النقد فحسب، ولا يكون النقد المقولب الذي يتوقع من النص محددات وأطراً مسبقة، بل النقد الذي يعي أن النصَّ هو من يقود النقد ويفرض عليه آفاقه وليس العكس! أما عن مقولة “إن الناقدَ كاتبٌ فاشل” فأنا لا أتفق مع ذلك لأن الناقد -كما يجب أن يكون- يمتلك كل أدوات الكتابة الأدبية، ويتمتع بالذائقة الجمالية والعمق الفكري أيضاً، قد لا يتحول الناقد إلى كاتب ولا أفترض أن ذلك من ضمن أهدافه وطموحاته بالضرورة، وقد لا يمتلك الناقد موهبة خلق الفكرة وإبداعها، وهنا تحديداً تكمن المسافة بين مؤلف النص والناقد، لكن يستطيع الناقد أيضاً أن ينتج نصاً موازياً جمالياً للنص الأصلي وأن يبدع في اجتراح أدوات نقد جديدة وفتح نوافذ غير متوقعه لتذوق النص وجعله يتنفس في أفق أوسع”.
الفنان والناقد غازي عانا: على الفنانين التشكيليين ألّا يظلموا النقادَ.. فهم متبرّعون يعملون شبه مجان لتغطية المشهد التشكيلي في سورية
الناقد الفني في سورية مظلوم!
ولأن للنقد أشكاله ومدارسه وتنويعاته اللانهائية بحسب تنوّع الحياة نفسها وليس مقتصراً على النصّ الأدبيّ، كان لا بدّ من أنّ نُطعِّمَ هذا الاستطلاع برأي النحات غازي عانا الذي قال: “قبل أن أبدأ، لابدّ من الاعتراف بنخبوية الفن التشكيلي، وأنه ليس للعامّة، فهو كالموسيقى والشعر والرقص التعبيري..إلخ من فنون تتطلب بعض الاهتمام والمهارات والتدرّب على التلقي، لكني أعتقد أن الناقد التشكيلي السوري مظلومٌ! فقد كان الفنان السوري يشتري الصحف اللبنانية (أيام الصحافة الورقية) وغيرها من الصحف العربية ليتابع ما تنشره تلك الدوريات من كتاباتٍ تشكيلية عنه وعن غيره، رغم أن الذين يكتبون في حقل الفن التشكيلي في لبنان -باعترافهم هم- ليسوا بأفضلَ من النقّاد السوريين، لكننا في سورية نقلل من شأن وأهمية بعضنا بعضاً، فلدينا حركة فنية تشكيلية مهمة جداً، وأعتقد أنه كان وراءَها حركةٌ نقديةٌ مواكِبةٌ عرَّفتْ بها وشهرتها”.
نستزيدُ الفنان “عانا” بسؤالٍ عن الاختلاف بين النقد والانطباع الذي تتركه مشاهدة لوحة أو منحوتة؟ فيجبنا: “إنّ بعض النقاد في سورية ليسوا متخصصين أكاديمياً ولا يدّعون أكثرَ مِن معرفتهم كلٌّ بحسب ثقافته واهتمامه وعمله، إذ كما تعلم لا يوجد في بلدنا شيء اسمه “اختصاص نقد تشكيلي أكاديمي”، هم يكتبون انطباعاتِهم عن معرض ما، أو ماذا ترك عندهم من أثر، لذلك على الفنانين التشكيليين ألّا يظلموا النقادَ، وألّا يتسرعوا في إصدار أحكامهم عليهم، فهم متبرّعون يعملون شبه مجان لتغطية المشهد التشكيلي في سورية. وهنا لابدّ من التمييز بين هؤلاء وبين عديد من الصحفيين ممن يكتبون في قضايا عديدة منها الفن التشكيلي، وخاصة الشباب الجدد منهم الذين يستسهلون الكتابة في هذا النوع الصعب من الفنون، فيكتبون عن الفن مثلما يكتبون عن أي شأن آخر، وقد يستفيد بعضهم من علاقات شخصية، أو من ضآلة معرفة المسؤولين عن الصفحات الثقافية في الفن التشكيلي، وهذا ما ترك أثراً سلبياً على هذا النوع من الكتابة، وبالتالي على المهتمين بالكتابة في حقل التشكيل”.