من خارج النسق.. غيث ضاهر يُفتش عن الجماليات في قلب الخشب
تشرين- علي الرّاعي:
في المشهد التشكيلي السوري؛ ليس هيناً على الفنان أن يُشكّل علامته الفارقة، ويُنشيء انزياحاً عن المشهد المتماثل، وذلك لغير سبب.. منها الدراسة الأكاديمية الواحدة، أو المؤثرات ودوافع التجربة الفنية التي غالباً تكاد تكون هي نفسها خلف الكثير من هذه التجارب..
في عالمٍ مختلف
أقول ليس هيناً، أن يبني الفنان علامته الفارقة حيث الهموم واحدة، والمعايشة هي نفسها، والمؤثرات تكاد تكون هي عينها.. رغم ذلك ليس إيجاد مثل هذه المفارقة مستحيلاً.. “المفارقة”، أو على العلامة الفارقة عند الفنان التشكيلي الذي جعلت من تجربته تخرج عن سرب التماثل والتشابه التي أعطت مسحة ما مختلفة للتجربة، ذلك لأنّ الكثير من التجارب الفنية تبدو وكأنها تخرجُ من محترفٍ واحد.. ورغم أهمية (الميزة) هنا، لكن ليس بالضرورة أن تكون التجربة أهم أو تتفوق على غيرها من التجارب، ربما تكون أحياناً العكس، فليس دائماً كلّ مختلفٍ، أو من يخرج عن السياق والسرب يعني أنه الأفضل..
ومن علامات الخروج عن النسق – وهي جرأة كبيرة بالتأكيد –كان الإبداع ضمن المُعطى الواحد الذي قامت عليه التجربة من بدايتها إلى اليوم، ومن النادر أن خرجت عنه إلّا قليلاً، والتي سرعان ما كانت تعود إليه بعد كلِّ خروج، وهو هنا رغم خطورته في تماثل التجربة، غير أنه يُشكّل تحدّياً كبيراً للفنان التشكيلي نفسه، في التنويع على شواغل هذا المعطى الواحد الذي قامت عليه التجربة الفنية دون أن يخشى الوقوع في مطب التكرار..
من العلامات الفارقة مثلاً: الخامة الحامل، والتي هي خشبة مسرح التجربة، التي شكلت بدورها علامة فارقة، وحتى الأداة أو الأدوات التي تُستخدم في إنجاز هذه الأعمال التشكيلية، وربما من العلامات الفارقة الجرأة في مقاربة شواغل اللوحة..
الخروج عن النسق
أذكر ما تقدم، ولا تزال أعمال الفنان التشكيلي غيث ضاهر ماثلة الحضور في صالة (مرسم فاتح المُدرّس) بدمشق، والتي هي وإن لم تختلف كثيراً بشواغل العمل الفني ومضامينه، غير أنها بكلِّ تأكيد فارقت المشهد التشكيلي السوري بعلامتين فارقتين على الأقل، وبكلِّ تأكيد هذا ما يُحسب لها، ويجعلها تخرج عن النسق المتماثل.. وهاتان العلامتان الفارقتان كانت في الخامة التي بنى من خلالها وعليها عمارته الجمالية، بل وحتى في شواغل اللوحة، كان التميز بسرد هذه الشواغل وصياغتها بتعبيرية لا تشبه غير تعبيرية الفنان غيث ضاهر نفسه..
وإذا ما بدأنا من الخامة التي شكلت (خشبة المسرح) لعروض الفنان ضاهر التشكيلية، فقد اختار الفنان هنا الخشب، وليس أي خشب إنه خشب الزان في معظم أعماله النحتية، وأقول هنا (النحتية) مقاربةً؛ ذلك أن شغل غيث ضاهر يُفارق أعمال النحت المعروفة، هو أقرب إلى (الحفر)، لكن أيضاً ليس الحفر في دراسات كلية الفنون الجميلة المتعارف عليه.. إنما هو مزيجٌ من الحفر والنحت، والذي اصطلح أن يُطلق عليه فن (الروليف)، وللتذكير فن الروليف ليس خاصّاً بالنحت والحفر على الخشب، بل قد كثيراً ما كان (الروليف) من عجينة السيراميك (الخزف)، وبودرة طحن الأحجار مع إضافة العوازل ومواد التصلب كـ (الإيبوكسى أو الكيمايوكسى) حيث تعجن وتطلى بقماش (الكيفيلار) لتكون أكثر تماسكاً وصلابة.. ثم تنحت يدوياً بعد أن تجف لتبدو كقطعة البورسلان الناعم المصقول.. من هنا فإنّ (الروليف) عند غيث ضاهر، أيضاً مجازاً أو مقاربةً، ذلك إنه في استخدامه هذه التقنية، فقد تجاوزها في الكثير من انعطافات التجربة إلى عكسها.. ذلك أن (الروليف) كتقنية خُزنت في الذاكرة كمصطلح للفنون البصرية النافرة، بمعنى اقتصر الروليف على الفنون النافرة، غير أنه في شغل غيث ضاهر ثمة الكثير من الجماليات البصرية الغائرة، وهو ما يُقربه أكثر من فن الحفر، لكن يختلف عنه إنه هنا العمل نفسه (المحفور) هو العمل التشكيلي، وليس الخامة التي حفرت – كما في تقنية الحفر – ومن ثمّ تُحبّر وتلوّن ويُطبع منها عشرات اللوحات المتماثلة، طبعاً اللوحة الأولى تكون هي الأفضل، باعتبار تكون الأحفورات – إن صحّ التعبير– لم تتأثر بعد بالمواد الكيماوية وغيرها..
حفر ونحت وروليف
(حفريات) غيث ضاهر – إن جازت التسمية أيضاً- هي نفسها العمل الفني بارزاً ونافراً وغائراً، وهو الخامة أيضاً، فهو يُضمّن (أخشابه) أو يودعها شواغله الفنية من مضامين اللوحة البحثية والفكرية، وكذلك الجماليات البصرية.. ومن هنا قد نظلم هذه الأعمال إذا ماحصرناها بفن (الروليف) فقط، وكذلك نظلمها إذا صنفناها بفنون الحفر، وإنما هي تمشي على التخوم بين التقنيتين التشكيليتين، ومن ثمّ هي تأخذ من بقية أنواع الفنون التشكيلية كافة من تصوير ونحت، وحتى فنون الديكور..
سفينة نجاة
إذاً هذه كانت أولى العلامات الفارقة، وأظنها تكفي وحدها، لأن ترفع أعمال الفنان غيث ضاهر إلى سفينة النجاة في بحر التماثل في المحترف التشكيلي السوري، الذي لا تلاطم أمواج فيه، وإنما هذا الهدوء الممل من تتالي الأمواج ذات العلو الواحد.. غير أنّ في أعمال غيث ضاهر علامة أخرى؛ إذا ما أزحنا قليلاً بعض أعماله التزينية، وهي ليست كثيرة بالمناسبة، ولا تُعيبها (التزينة) هنا في شيء، فكلُّ الفنون البصرية تقعُ على عاتقها مهمة “تزينية” ما، ومتعة بصرية في المقام الأول.. وهي عند غيث ضاهر تلك اللوحات التي ذهبت صوب مناخات الطبيعة، وتصوير المناظر الطبيعية، مستمدّاً إياها – ربما- من أعمال الروليف الأولى التي كانت تستوحى من ثلاثة مناخات، الأول من الطبيعة، وهي أشكال جبال ووديان وأنهار وأحياء وطيور وحيوانات تتخللها أشكال الأشجار والطابع المائي لإضفاء روح الحياة والطبيعة، لتكون بشكلٍ جمالي راقٍ يبعث البهجة في عيني ناظريه، فيما يستوحى الثاني من الطابع المعماري الزمني العريق، كأشكال البيوت القديمة والأكواخ الخشبية، أو طابع يُميز شعب أو دولة ما، متأثراً بالفنون القديمة، وأخيراً النوع الثالث الذي يستوحى من النوعين، كأشكال معمارية وحضارة قديمة ممزوجة بالأشجار والشلالات والسواقي..
ثلاثة مناخات
غيث ضاهر استوحى من كلِّ ما سبق في أعماله التزينية، التي جسد بعضها ملاحم من الذاكرة المحلية كأسطورة (الخضر) عند المسلمين، أو (مار جرجس) عند المسيحيين في صراعه مع “تنين” البحر – الوحش الأسطوري الذي كان يقتل أبناء المدينة البحرية، أو يخطف نساءها.. وهنا يُمكن للمتلقي أن يجد ما يُدهش في هذا التكنيك الساحر الذي يتطلب طولَ بال وأعصاباً باردة، وأناة وجلداً نادرين، ولاسيما في اهتمامه بهذا التجسيد على الخشب بعيداً عن الفرشاة، أو الخامة البيضاء، وإنما استخدام أدوات متنوعة تشبه (مفكات البراغي) لإجراء هذه الحفريات والنحت معاً على الخشب ذاته، بمعنى الخامة نفسها هي جزء لا ينفصل عن العمل الفني، وهنا مستفيداً إلى حدٍّ بعيد من التدرجات اللونية للخشب نفسه، وهو يغوص مصوراً الأعماق البحرية، والغابات، وغيرها من مشاهد الطبيعة، وهي من الواقعية بحيث تفوق التصوير الضوئي جمالاً، ولاسيما في تأكيده على البعد الثالث، أي أن اللوحة هنا، هي نفسها تمشي على حواف النحت والتصوير، فرغم أنّ ثمة أبعاداً للوحة، ومحددة بإطارات كما في فنون التصوير، غير أنها هنا تتجاوز هذه الأبعاد صوب الكتلة والفراغ كما في فنون النحت.. أو كما يذكر: “أضفت إلى الحركة التشكيلية تجربة فريدة وجديدة، تجاوزت مفهوم “الروليف” النافر، وجعلته أقرب إلى النحت المُجسّم؛ من خلال التفرد بأسلوبٍ جديد باعتماد النحت البارز مع المبالغة بإظهار مفردات اللوحة، من خلال توزيع العناصر النافرة الخارجة من سطح اللوحة، التي تُشكّل مفردة مستقلة ظاهرة على السطح، لتكسب اللوحة في بعض عناصرها أبعاداً ثلاثية من خلال عملية تفريغ دقيقة بخطوطها وتكويناتها، إضافةً إلى أن أعمالي تتنوع ما بين لوحات ذات طابع كلاسيكي يجسد مشاهد الطبيعة والريف والبحر بتفاصيلها البسيطة والمعقدة، وهي أعمال تحتاج إلى خبرة وصبر وتفانٍ في التعامل مع عنصر الخشب وموجات الحياة المتيبسة في أصوله.”
الحب والمرأة
ورغم كلّ هذه الدهشة في إنجاز اللوحة، والجماليات التي تقدمها، أقول إذا ما تجاوزناها قليلاً باعتبار أن الكثير من أعمال التصوير قاربتها، فثمة أعمالٌ أخرى اشتغل عليها غيث ضاهر على جماليات المعطى الواحد، وهذا من وجهة نظري يُشكّل تحدّيّاً ليس هيناً للفنان، ولاسيما من خلال تناوله بطريقة مختلفة عما تناوله غيره من الفنانين التشكيليين، وهو هنا موضوع (المرأة)، وكذلك موضوع (الحب)، وكأن لامجال أبداً للفصل بين الأمرين: الحب والمرأة..
هنا إضافةً للصياغة البصرية المدهشة التي بنى غيث ضاهر عمارته الفنية من خلالها، غير أن الشغل البحثي ركّز خلاله على المنطقة الوسطى من الجسد الإنساني، أو الصدر.. فقد كانت هنا تكمن لعبة الفنان التشكيلية، أو أن الفعالية الإبداعية والجمالية كامنة هنا فيما أطلق عليه تشريحياً (القفص الصدري)، ولا أدري كون الفنان هنا طبيباً كم ساعدته مهنته كطبيب في تحرير هذه (الصدر) من قفصه، مع احتفاظه على كلِّ الجماليات التي يظهرها الجسد الإنساني.. هنا سعى الفنان ضاهر إلى تغييب (القفص)، محولاً إياه إلى (بيت)، وشتّان ما بين البيت والقفص، القفص وما يوحي بالقيد، والسجن، والحيز الضيق.. والبيت، وما يعني من مشاعر دافئة وملاذ، وسكينة وسلام..
بيت المشاعر
إذا في هذه المنطقة ستكون الفعالية الإبداعية للفنان غيث ضاهر، حيث هنا بيت المشاعر، وهي ليست بالضرورة أن تكون في حالتها الصحيّة التامة، بل غالباً ما كان العكس الذي جرى تصويره.. هنا المشاعر المكسورة الخاطر غالباً، المشاعر المرتبكة، والمجروحة، وهو ما أشار إليه الفنان بالكثير من الرموز، كأن يكون هذا البيت – القفص الصدري – أقرب لقفص طيور هجرته عصافيره، أو يكون أمسى (دريئة) للتصويب، وفي مشاهد أخرى كان لوحة مرور (ممنوع)، وهكذا نوّع الفنان غيث ضاهر على ما يُقارب من عشرين عملاً فنيّاً، اشتغل فيه على الرمز، ومركزاً من خلال هذه الرموز على (بيت المشاعر- الصدر)، وما يحتويه من فقد، وخوف، وحب، وشغف، وتوق، وغيرها.. وهنا لم يكتفِ الفنان بما وفرّه الخشب من تدرجات لونية، وإنما اشتغل على تلوين تفاصيل بعينها، لربما ليجعل منها “بؤرة” للحدث ضمن هذه الخلفية من التراجيديا.. هذه التراجيديا أو الدراما التي تمشي بدورها على التخوم بين التعبيرية وشيءٍ من السوريالية.. وهو ما منح هذه الأعمال الكثير من الزخم الفني التي تجلى بهذه المشاهد البصرية التي تمسك خيوط الأنواع التشكيلية من أطرافها من دون أن “تتورط” وتستقر بأحدٍ منها، وإنما تأخذ من كلِّ نوع ما يخدم توجهها الجمالي والبصري أي (الشكل)، وما يُفيد توجهها البحثي والفكري أي (المضمون)..
كما نُشير إلى مجموعة ثالثة من هذه الأعمال، التي أسهبت في دراما تعبيرية مفعمة بالتراجيديا عن عذابات إنسان القرن الحادي والعشرين، من خلال صياغات وتكاوين مختلفة، كما في عمله الذي يصوّر فيه كائناً بشريّاً مضغوطاً ضمن حيز (ملزمة) غالباً ما يستخدمها النجارون والحدادون للإمساك بقطعةٍ ما وتثبيتها..
كلُّ ما تقدم صاغه الـ(ضاهر) في معرضه الذي جاء ضمن مناسبة الأيام التشكيلية التي تُقام سنويّاً في مثل هذه الأيام من السنة، وذلك من خلال ما يُقارب من خمسةٍ وعشرين عملاً تشكيلياً ناسجاً بين الواقعي، والتعبيري والسوريالي، وأحياناً جمع بين ثلاثتها في العمل التشكيلي الواحد، وهو ما أشار إليه الفنان والناقد عصام درويش مدير صالة (مرسم فاتح المدرس)، بقوله نرى ثمة: “تجانس خامة اللوحات التي عمل عليها الفنان، والتي خلقت أعماقاً وأبعاداً داخل العمل وفق آلية من العمل المتقن الشاق، لطرح عددٍ من المواضيع الإنسانية.”.