«مكيدة» الاستدانة من المستقبل
بالفعل لم يعد ثمة مجال للوجدانيات والعواطف في إدارة الموارد والتعاطي مع الملفات الحساسة، ولعلّها نقطة تحوّل مفصلية وجريئة على مستوى مقاربة الإدارة التنفيذية في سورية لمهامها، ولو اعترى المشهد العام بعض القسوة والمباشرة في المصارحة، فالدواء المرّ ليس مستساغاً دوماً، والقرارات الجراحية ليست ذات شعبية مهما كانت مصحوبة بالأمل.
البيان الحكومي كان مكثفاً بالفعل، تخلل مقدمته ما يشبه “الاعتذار” عن الاستمرار في التماهي مع الرغبات العاطفية والنفسية للحكومة والمواطن على حدٍّ سواء، وكانت الإشارة صريحة إلى تناول آخر لموضوع مضاعفة أو زيادة الرواتب والأجور، ما لم يتوافق بنمو في معدلات الاستثمار والإنتاج، أي الحسم لم يكن سلبياً قاطعاً، بل مشروطاً بتحقيق مكاسب تنموية على صعيد الاقتصاد الكلّي.
إلّا أنّ من حسم وجزم سلباً بطريقة قاسية كانت تلك الرؤى التي بناها أصحابها على نفحة سوداوية مفرطة، في إصرار غير مفهوم على متابعة المضي في سياسات خاطئة تسارع إلى اعتماد الزيادات كإجراءات تسكينيّة – بل تخديرية – بدلاً من العلاجات الناجعة بالفعل لا بمجرد القول.
لم يعد مقبولاً على الإطلاق أن تعمد الحكومة إلى زيادة الرواتب عن طريق التمويل بالعجز..لأنه خيار بغيض ويعني في أدبيات الاقتصاد شيئاً واحداً هو “الاستدانة من المستقبل”.
والاستدانة من المستقبل تعني أننا نستدين من أنفسنا أولاً ومن أبنائنا ثانياً لننفق عليهم، أي هم من سيدفعون فاتورة باهظة لاحقاً، وهي “مكيدة اقتصادية” يجب ألّا نكرر الوقوع بها.
البيان الحكومي حمل في ثناياه ما يضمن تحسين المستوى المعيشي للجميع عبر خيارات إستراتيجية حقيقية، ترتكز على استنهاض مقومات الاقتصاد الحقيقي، والقضاء على “بطالة وسائل الإنتاج” التي هي سبب داء بطالة القوى العاملة وتقهقر معدل العائد، وبالتالي سبب الفقر وسلسلة التعقيدات الاقتصادية والاجتماعية المرافقة له.
إنّ زج الرساميل الوطنية في الاستثمار، ومساهمتها في إحياء موجودات وأصول القطاع العام المعطلة، هو ما يضمن عائدات كافية للعاملين والموظفين، و دخول رأس المال الخاص ميدان التشاركية الفاعلة في تشغيل الشركات المترهلة، بات وصفةَ إنقاذٍ حقيقية لها من السقوط، ومصدراً مضموناً لتمويل الطموحات المتواصلة بزيادة الأجور للعاملين فيها..
فضاء واسع من الخيارات الإيجابية لتمويل “ما يطلبه المواطن” من سيولة، لسد فجوات إنفاق ليس من المعقول الاستمرار في مطاردتها بالوسائل البدائية الارتجالية السابقة..وهنا ستكون نقطة التلاقي والتصالح المستدام بين الحكومة والمواطن.
أما على مستوى القطاع الإداري..حيث تبدو المشكلة أعقد قليلاً، فيمكن اللجوء إلى إقرار رسم بسيط يجري تحديده بوضوح، يدفعه كل مراجع ” شخص أو شركة”، لتوزّع الحصيلة شهرياً على العاملين “حلال زلال” كما يقال، بدلاً من استئثار موظفي الواجهة بجمع العلاوات فساداً من تحت الطاولة..
بهذه الطريقة ننصف كلَّ موظف ويكون بمقدورنا بتر ظاهرة الابتزاز كشكل من أشكال ” الفساد المبرر تحت وطأة الحاجة”..هي فكرة قابلة للنقاش لتطويرها وبلورتها بدقة لتكون مصدر تحسين دخول العاملين في القطاع الإداري والخدمي، وثمة متخصصون يمكن أن يتولوا دراستها بالطبع ..وليس نحن .
البيان بيان دولة تنوي التعافي لا البقاء مأزومة في دوامات متسارعة.. دولة حاضنة لجميع أبنائها بغض النظر عن هويتهم ومرجعياتهم الاستثمارية و الوظيفية..
وعلى العموم ستكون العبرة في إدارة المقدرات والموارد، وهذه مهمة المنظومة التنفيذية التي ستكون أمام اختبار كفاءة قاسٍ، كما سيكون قطاع الأعمال أمام اختبار استجابة ومبادرة..والقادمات من الأيام قد تكون حافلة بالجديد.