لعبة الذائقة

في البرنامج الإذاعي، كان مطلوباً من الضيف الذي سيرحل افتراضيّاً إلى جزيرة في البحر أن يأخذ معه كتاباً، وحتماً سيكون هذا الكتاب هو أهمَّ ما قرأه في حياته، وسيتفق مع المحاوِر دون علم المستمع على عنوانه ليسلس الحوار ويبدو عفوياً وجذاباً! في ذلك المفترق اقترحتُ كتابَ “نهج البلاغة” بلا تردّد، لأن كلَّ كلمة إذاعية تشبه رابطاً وثيقاً بين المتحدث والمستمع، ولا بدّ أن توصِل رسالةً لا تُنسى، خاصةً حين الحديث عن كتابٍ، تُفردُ أوراقُه ويُعَرَّف بكاتبه وزمنِه وظروف تأليفه، وتكون فرصةً لتوسيع الحوار ليس بين اثنين بل عبرهما، مع مستمعين لا يُعرف عددهم ولا مستوى معارفهم!
حسناً! كان هذا الكتابُ الأولَ في مناخ الحوار الإذاعي القائم على السؤال والجواب والاستفسار والإيضاح، لكن حين جاءني فتى لأضع معه قائمةً بالكتب التي سيشتريها ويضعها بين أيدي أهل قريته، صدقةً جارية لروح أبيه المتوفى، أدهشني مشروعُه الذي تخطى وضعَ سبيلِ ماء للعطاشى العابرين وبدأت أتذكر وأدوّن العناوين التي يمكن أن تنال إعجابَ القرّاء الافتراضيين في تلك القرية التواقة إلى المعرفة وإلّا ما كان الفتى قد فكّر بالمشروع من أصله! سريعاً امتلأت القائمة بأسماء أدباء بعد “جبران خليل جبران” فأتت “الشراع والعاصفة” و”المصابيح الزرق” “لحنا مينه” و “إلفة الإدلبي” و”هاني الراهب” وسألني إن كان مفيداً إضافةُ “مصطفى لطفي المنفلوطي” فذهبَت تداعياتي إلى زمن أدبيٍّ كان مزدهراً قبل أن يحدث “انفجار” الزمن الروائي الحديث، وكان لا بدّ من الشعر و”نزار قباني” و”إبراهيم طوقان” و” بدر شاكر السياب” قبل أن نتجول بين المكتبات ونزور وزارة الثقافة التي زودتنا بدراسات أيضاً وبأسعار رمزية!
ستهاتفني طبيبة شابة تخرّجت حديثاً، تريد استثمار وقتها بالمطالعة وتطلب مني تسريع وقتِ البحث عن كتاب ثمين، فأجد نفسي أجيبها فوراً: اقرئي “تشيخوف”!
حين أحاور الطفلة التي تعتبر أن أثمن هدية تتلقاها هي الكتاب العلمي أو الأدبي، أسألها إن كانت تعرف “هانز كريستيان أندرسن” وأطلبه من أجلها في أول مشوار في منطقة “الحلبوني” في دمشق!
كأن الذائقة تشبه فعلاً حاسة “التذوق”، تتأثر بالموسم والمناخ العام والحالة النفسية بمعناها الواسع، وتبقى الحصيلةُ المعرفية مثل “المؤونة” المخزونة تمتد إليها اليد وقت الحاجة من دون انتقاص من قيمتها! وهذه المؤونة هي الكنز المتراكم من التراث والفكر الإنساني بكل لغاته، نلمس زرّه السحري فيتدفق الشعر والأدب وعلم النفس والبحوث والعلوم وكل ما يرفع النفسَ البشريةَ درجات فوق درجات!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار