من أي غاب أتى هذا الليل؟ ‏

تشرين- ادريس هاني :‏
أنت تركّز على المنطوق وأنا أهتمّ بالمفهوم، تهتمّ بالكلمات ويروقني صوتها كدالّة على ‏المعنى، وهي مشروطة عندي بلذّة النّص، نسمع ضجيجاً، ولا نلمس معنى، فمن أين سنظفر ‏بلذة النّص والكلمات؟
وكما أكدنا، فإنّ الدياليكتيك هنا مفروم، البنية النفسية كامنة في الأطروحة ونقيضها، وكذلك ‏الغايات، فمن أين يا ترى سيحصل التجاوز والتركيب؟ هناك معارك حارقة في الشّرق ‏الأوسط، وهناك معارك غوغائية بين أطراف بنية مشتركة في التفكير والحقد، المطلوب هنا ‏الاستنزاف، مطلب أساسي في معارك بهلوانية، لا أحد يمتلك رؤية فارقة، لا حمّالة الأطروحة ‏ولا حمّالة نقيضها، فحين تكون بعيداً عن الميدان، أو من المتفرجين كبقية العالم، فهذا لا ‏يمنحك من المعطيات ما يمكّنك على الأقل من النباح المنطقي، ما هذه المسوخ التي تشتبك في ‏مدرج الفرجة، ماذا يضير المتحرّقين الفضوليين من أمر هم فيه أغراب وإن رقصوا رقصة ‏النسناس؟
يصعب اليوم إيقاف نزيف الجهل، لأنّ مقدّماته قديمة، والتعبئة الفاسدة لها جذور سابقة في ‏أولى حماقات الظّلامية، يوم كانت شريكة في تدوير زبالة الخطاب الطائفي والعنصري على ‏مدار اليوم والليلة حتى عاد الإقليم كمزبلة وعي مثقوب، هذا خطاب قديم، وإن حاول البعض ‏التنصل منه هروباً إلى الأمام متلصِّصاً بلعبة خطاب أجوف، وقلب «القفّة» على الأجيال ‏الجديدة، الذّات العربية مريضة بخطاب الاستئصال والتشنيع، ليس فقط لأنها غير راشدة، بل ‏لأنّ العصبية متأصّلة، وهي قابلة للتلوّن بلون المرحلة وتناقضاتها.‏
هؤلاء الدّعاة ومن يتكامل معهم من أصحاب البدلات وربطات العنق، تكامل بين اليمين ‏والوسط وما تحت الأقدام، ظاهرة تؤكد تدهوراً كبيراً في الاستقامة الإيديولوجية وليس في ‏الإيديولوجيا نفسها، حين تضمحلّ الذّات، يضمحل كلّ شيء بها ولها ومعها.‏
ما يشفع لهذا الاختلال الديالكتيكي هو أنّ نقيض الأطروحة يتوفّر على الطّاقة السلبية الكافية ‏في معركة الاستنزاف، لا يصلح للأطروحة الضّحلة نقيضاً راقياً، إنّه تكامل منطقي في ‏الرّداءة، فالتركيب لا بدّ أن يكون أردأ، لأنّ شرط كمال التركيب هو تكامل في الرداءة.‏
يمكن مسح الأرض منطقياً بكلّ أشكال الحجاج الأكروباتي الذي يمرّ كشريط طويل ملؤه ‏التكرار والمغالطة، فأصحاب الدّور هم من الغباء العلمي والجهل المركب ما يسهل دعس ‏حججهم كالصراصير، ولكن الفرجة أمتع، في انتظار تطوُّح اليراع.‏
هل تساءل أحد كيف نما هذا النبات الفاسد في وسائطنا، حيث كلّ أهبل يملك أن يقوم بحركات ‏بهلوانية؟ لا شكّ أنّ عصرنا هو عصر السيطرة الشمولية، فلِمَ عجزت عبقريتنا عن السيطرة ‏على هذا النزيف من الرّداءة؟ هل باتت للرداءة سلطة خامسة؟
ينقص النسانيس اللياقة التي تجعلهم مقنعين وهم يتقافزون على الركح، فقر في جمالية الحركة ‏الانسيابية، فشل في الإقناع المسرحي، فشل في الإمتاع وغياب للذة النّص، وإذاً ماذا؟
أجبنا أنّ المطلوب ومن خلال التكرار البيداغوجي للرداءة «التربية على الرداءة»، تدشين ‏عصر جديد لكوكب القردة، شرط بيولوجي للتفكير المغالط من دون إحساس بالذّنب، ما يعني ‏تصميم دماغ للعبيد، تطورت التقنية والصورة، وبقي الحقد على نمطه الجاهلي، أحياناً يبدو لي ‏أنّنا في شبه غابة، وليتها كانت غابة بالفعل، فحتماً إن كانوا فيها قردة خاسئين، سنكون فيها ‏طرزانات.‏

كاتب من المغرب العربي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار