القاص العراقي محمد خضير.. وهموم القصة العربية
تشرين- د.رحيم هادي الشمخي:
لعلّ القاص محمد خضير، هو أكثر الأدباء العرب صمتاً إزاء ما يُقال أو قيل عن نتاجه، رغم أنّ هناك الشيء الكثير الذي كُتب عن تجربته، فلا أحد يتذكّر أنه تكلّم عن نفسه وعن تجربته في حوار صحفي أو ندوة إلّا ما ندر، وكثيراً ما تجنّب القاص خضير الحديث عن تاريخه الشخصي وقصصه، وعمد إلى الحديث عن عموم رؤيته الفنية للواقع والقصة، مؤكداً على صفات القاص العربي وعاداته وتعامله مع الواقع على أساس مختلف تماماً عما تعامل به كتّاب (القصة الخمسينية) والذي قال عنهم إنهم (كتّاب عرائض) وقاصداً أنهم اكتفوا بدور الوسيط ما بين الواقع والقارئ، حيث لجؤوا إلى المناطق الأمينة منه فقط، على العكس منه تماماً حينما ذهب إلى الحافات الخطرة من هذا الواقع، وهذه هي نقطة التحوّل عن مسار القصة الخمسينية، مشيراً إلى أن تعامله مع الحياة اليومية لم يتم على أساس امتلاك دفتر ملاحظات يسجل فيه أفكاره وملاحظاته التي تتحول فيما بعد إلى قصص، إذ إنه يعتقد أن دفتر ملاحظات الكاتب هو ذاكرته و(دفتر الملاحظات لا يمكن أن يكون بديلاً عن ذاكرته) لأن فن القصة هو فن البساطة والقناعة التي تكتفي بقوة النظر.
وأكد القاص العراقي محمد خضير في هذا المجال على مساحة الخيال التي تمكن الكاتب من الارتفاع من دون الانفصال عنه، فهو لم يلتحم مع الواقع من أجل أن يعطيه الفرصة لكي يظل متمسكاً فيه ولا يخرج من قبضة “أنا سرت في المسالك الهوائية” التي ترتفع فوق الواقع من دون أن تجعله ينقطع أو ينفصل عنه تماماً، وأشار في هذا الصدد إلى تجربة الستينيين والسبعينيين الذين قال عنهم (إنهم كانوا محقين في انطلاقهم لأنهم كانوا أمينين في رسم التجربة وتصويرها، وهذه التجربة العربية هي من أقوى التجارب على الإطلاق، لكنهم لم يتواصلوا في هذا الاتجاه بسبب ميلهم الشديد إلى حرفيات واقعية غير مطلوبة).
لقد وجد خضير أن إطلاق الخيال في التعامل مع الواقع عامل مهم، لأن الخيال ليس انحرافياً وإنما (هو قوة إشعاع لجوهر الشيء الواقعي) كما أن كتّاب القصة في الستينيات والسبعينيات كانت تنقصهم الجرأة في الكتابة لسببين: الأول هو افتقار حرية التصرف بالشيء الواقعي، والسبب الثاني هو الجمالية، لاعتقادهم أن هذا الواقع الكبير لا يتطابق مع الشكل القصصي وهذان محذوران غير أساسيين ولا يتدخلان في العملية الإبداعية لأن (العملية الإبداعية هي عملية تصرف ذكية) ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل القصة العربية خالية من الحكاية وخالية من الموضوع، فالوحدات الرئيسة، البداية والعقدة والحل التي وضعها المنظرون الأوائل نحن نحتاجها في هذا الوقت أكثر من أي وقت سابق، فـ(ماركيز) رغم واقعيته هو كاتب خيالي لأنه يدرك الشيء المطلوب من الكتابة، وهذا الشيء ينطبق على (بورخيس) أيضاً، هؤلاء يخترعون الحكاية والتي يطلقون عليها (الواقعية السحرية) فبينما المحاضر يسميها (الحكاية الجديدة) وكل القصص التي تستند على الحكاية يطلق عليها (الحكاية الجديدة) في القصة الواقعية، ولعل كتاب (ألف ليلة وليلة) أقرب مثال على ذلك، فهو كتاب واقعي لكن فيه من سحر الخيال الشيء الكثير.
في كتابه (المدينة والحرب) تحدث القاص محمد خضير عن علاقته بمدينة البصرة مدينة الفراهيدي والسياب يقول عنها: «احتجت إلى عين غريبة لكي أعرفها معرفة غريبة، هدمتها كي أكتشفها وكانت المسافة بيني وبين مدينتي هي المسافة بين العين والمشهد واليد والشيء» فالرحالة الأجانب يصفون لنا مدننا وواقعنا بالشكل الغريب والمدهش والسبب يرجع إلى طبيعة العين وليس إلى الموضوع أو الشيء، ولهذا لا نستطيع أن نفهم مدننا بالابتعاد عنها، ويقول: «نستطيع نحن الكتّاب العرب أن نبني مدناً إلى جانب مدننا الأصلية لكي نخلق فيها عوالمنا».