قطاع إستراتيجي أمام تحدي “يكون أو لا يكون”.. متغيّرات حادة تستوجب مرونة التعاطي مع مصدر الأمن الغذائي السوري الأول

تشرين – رشا عيسى:

بين متغيرات طارئة وأخرى دائمة تقع الروزنامة الزراعية السنوية في مطبات متكررة، ما يجعل قواعدها الأساسية القائمة على الزمن والتخطيط خاضعة تماماً لقوانين المناخ التي غالباً ما تكون ضدها حيث تعد الظروف البيئية الملائمة واحداً من المتطلبات الأساسية اللازمة لنمو وتطور أي محصول حقلي وأيضاً غلته الإنتاجية.
وتتحدد أغلب مواعيد زراعة المحاصيل الحقلية بالنظر للظروف المناخية السائدة من حيث متوسط درجات الحرارة ومعدلات الهطل المطري، هذا بالنسبة للمحاصيل التي تزرع في مساحات مفتوحة، أما فيما يتعلق بالزراعات المحمية فإن الدورة الزراعية فيها مستمرة.
والمفكرة الزراعية لمواعيد زراعة المحاصيل البعلية المحلية قد حدث فيها تغيير خلال السنوات الأخيرة من حيث التأخر في البدء بالزراعة ولفترة تتراوح بين شهر إلى شهر ونصف الشهر أحياناً، بينما يعد البدء بالهطل المطري وكميته أساساً في تحديد موعد زراعة العديد من المحاصيل الحقلية الشتوية.

جدول زمني
المدير العام لهيئة تطوير الغاب المهندس أوفى وسوف شرح لـ”تشرين” أن الروزنامة الزراعية هي جدول زمني يحدد مواعيد زراعة وحصاد المحاصيل الزراعية المختلفة بناءً على الظروف المناخية والفصول، وتساعد هذه الروزنامة المزارعين في التخطيط الأمثل لأعمالهم الزراعية، ما يساهم في زيادة الإنتاجية وتحسين جودة المحاصيل.
وتتضمن الروزنامة الزراعية معلومات حول مواسم الزراعة وتحديد أفضل الأوقات لزراعة كل نوع من المحاصيل، كما تتضمن مواسم الحصاد وتحديد الأوقات المثلى لجني المحاصيل، والظروف المناخية ومراعاة التغيرات في الطقس مثل درجات الحرارة والأمطار، والأنشطة الزراعية مثل الري، والتسميد، ومكافحة الآفات .
التغيرات المناخية أثرت في الروزنامة الزراعية في العديد من المناطق وفقاً لوسوف، بما في ذلك منطقة الغاب، وهذه التغيرات تشمل ارتفاع درجات الحرارة، وتغير أنماط الأمطار، وزيادة تكرار الظواهر الجوية المتطرفة.

 

التغيرات المناخية أثرت في الروزنامة الزراعية في العديد من المناطق

لم تصل إلى حد التغيير
ولكن هذه التغيرات المناخية لم تصل إلى حد تغيير الروزنامة الزراعية بالمطلق، ولكن حدث بعض التغييرات في عدد من العمليات الزراعية المطبقة على المحاصيل بما يتناسب مع الظروف الجوية الحالية، حيث مازالت تنجح زراعة مجموعة واسعة من المحاصيل الزراعية، وهنالك مناطق أخرى ضمن مجال عمل الهيئة اختلفت فيها الأنواع المحصولية المزروعة فيها ولكن هذا الاختلاف يعود لأسباب مختلفة منها: تراجع المخزون المائي لمياه الري بسبب تخرب السدود التي كانت تعمل في المنطقة مثل سدي أفاميا وزيزون وعدد من مشاريع الري مثل قنوات الري المغطاة (مشروع ٣٠٠٠)، وتضرر قنوات الري السطحية وذلك لأسباب مختلفة منها عمليات التخريب بسبب الإرهاب والتضرر بسبب الزلزال وغيرها، وخروج عدد من الآبار الارتوازية عن العمل، إما بسبب تخربها في بعض المناطق، وإما بسبب ارتفاع تكاليف تشغيلها وخاصة العاملة منها على المحروقات والتي أسعارها مرتفعة، الأمر الذي أدى إلى تراجع زراعة المحاصيل ذات الاحتياجات العالية من مياه الري في عدة مناطق والتحول إلى زراعة محاصيل أقل احتياجاً للمياه.

وأيضاً انخفاض خصوبة التربة، ويعود ذلك لعدة أسباب منها؛ عدم تطبيق الدورة الزراعية، إضافة إلى ارتفاع تكاليف الأسمدة، وبالتالي عدم قدرة عدد من المزارعين على تقديم كامل الاحتياجات السمادية لمحاصيلهم، ما أثر في خصوبة التربة، وارتفاع تكاليف الإنتاج لعدد من المحاصيل التي تكون فترة بقائها بالتربة طويلة نسبياً، وبالتالي يوجد مزارعون ليس لديهم القدرة على تمويل زراعة هذه المحاصيل، ما أدى إلى تراجع زراعتها في بعض الأماكن.

تفاوت في الزراعة
بالنسبة لمحصول الشوندر، أكد وسوف أنه لم يكن بعيداً عن الأسباب السابقة الذكر التي أدت إلى تفاوت زراعته في عدة مناطق داخل مجال عمل الهيئة، ويوجد العديد من الصعوبات التي يعاني منها مزارع الشوندر منها؛ أن محصول الشوندر من المحاصيل المجهدة للتربة بسبب طول فترة بقائه في الأتربة واحتياجاته المائية والسمادية العالية، وارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج، والحاجة الكبيرة للعمالة الزراعية لعمليات الخدمة والقلع للمحصول ذات التكاليف العالية، وعدم توفر المياة في الوقت المناسب في بعض الأماكن وخاصة خلال الشهر العاشر لريّة الإنبات أدى إلى التأخر في الزراعة ببعض الحقول عن موعد الزراعة المناسب، ما أدى إلى تعرضه لمخاطر الصقيع، والتفطيم المبكر للحقل وتأخر بعض الحقول في عملية القلع لأسباب تتعلق بدور الزراعة وقدرة المعمل على الاستقبال للإنتاج ووجود الحرارة المرتفعة وقت التسويق أدت إلى تلف بعض هذه الحقول في الموسم السابق.

 

وسوف: محصول الشوندر من المحاصيل المجهدة للتربة بسبب طول فترة بقائه في الأتربة واحتياجاته المائية والسمادية العالية وارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج والحاجة الكبيرة للعمالة الزراعية

وبالتالي أهم الأسباب التي يجب مراعاتها عند الزراعة للمحصول هو وجود استقرار للموارد المائية في مكان الزراعة، وتأمين مستلزمات الإنتاج، والقدرة العالية للمعمل على استقبال الإنتاج بشكل مناسب وخاصة في أوقات الذروة الحرجة عند ارتفاع الحرارة لتجنب تلف أي حقل.. جميع هذه الأمور على مستوى عال جداً من الأهمية لنجاح زراعة الشوندر.
وبالتالي فإن الظروف البيئية الملائمة واحداً من المتطلبات الأساسية اللازمة لنمو وتطور أي محصول حقلي وهكذا غلته الإنتاجية كماً ونوعاً، كما أكد الباحث الزراعي الدكتور مجد درويش لـ”تشرين”، والذي بين أن هذه الظروف متضمنة بشكل رئيسي العوامل المناخية الجوية والأرضية، حيث إن أغلب المحاصيل الحقلية المزروعة في سورية تتحدد مواعيد زراعتها بالنظر للظروف المناخية السائدة في البلاد من حيث متوسط درجات الحرارة ومعدلات الهطل المطري، هذا بالنسبة للمحاصيل التي تزرع في مساحات مفتوحة، أما فيما يتعلق بالزراعات المحمية فإن الدورة الزراعية فيها مستمرة.
ولا شك أنه في الآونة الأخيرة تعرضت المنطقة كغيرها من المناطق عالمياً لتغيرات مناخية أرخت بظلالها الثقيلة على واقع العملية الزراعية ومجمل الإنتاج الزراعي المتحصل، فمن فترات زمنية ذات درجات حرارة متطرفة إلى انحباس بالهطلات المطرية، وفترات جفاف طويلة (لأشهر) والتي رافقت مراحل النمو الحرجة لنباتات المحاصيل، ما أدى بدوره إلى نتائج سلبية في كمية ونوعية الإنتاج، وعلى الأخص بالنسبة للمحاصيل المزروعة بعلاً، كمحاصيل الحبوب الشتوية (القمح والشعير وغيرها) وبعض محاصيل البقول والمحاصيل العلفية.
تحديد موعد الزراعة
إن هذا الضرر الناجم عن التغيرات المناخية لا يقتصر فقط في تأثيره على حالة النمو للمحصول وإنتاجه بل في تحديد مواعيد زراعته وهكذا حصاده، ويقول درويش: إن البدء بالهطل المطري وكميته يعد أساساً في تحديد موعد زراعة العديد من المحاصيل الحقلية الشتوية، وإن أي تأخر في الهطل يتسبب في إعاقة عمليات تجهيز الأراضي والشروع بالزراعة، ما يسبب لاحقاً خللاً في الدخول بالمراحل “الفينولوجية” للنبات وهكذا دورة حياة المحصول.

فالمحاصيل التي تم اعتمادها للزراعة محلياً أجريت عليها تجارب الزراعة وبرامج الأقلمة تحت ظروف الدورة المناخية، وتم تقسيم المساحات الزراعية إلى مناطق استقرار (أولى وثانية وثالثة ورابعة)، بالنظر للظروف المناخية السائدة (لاسيما الهطل المطري) على مستوى القطر، حيث إن هذه المحاصيل تتوافق ومراحل نموها الفينولوجية مع ظروف مناخية ملائمة للتطور والإزهار والإثمار، وإن أي خلل في الظروف المناخية خلال أي مرحلة من المراحل (لاسيما المراحل الحرجة) ينعكس سلباً وبشكل مباشر على الحالة الفيزيولوجية لنباتات هذه المحاصيل وهكذا غلتها النهائية سواء كنمو خضري أم ثمري.

 

درويش: البدء بالهطل المطري وكميته يعد أساساً في تحديد موعد زراعة العديد من المحاصيل الحقلية الشتوية وأي تأخر في الهطل يتسبب في إعاقة عمليات تجهيز الأراضي والشروع بالزراعة

قدرة على التأقلم
في هذا السياق، يتم العمل في مراكز الأبحاث الزراعية والأكاديمية البحثية على ضرورة أن تكون الأصناف النباتية المعتمدة للزراعة محلياً ذات قدرة على التأقلم مع ظروف مناخية قد تكون متطرفة في بعض الأحيان، هذا مع إمكانية التدخل للعامل البشري في استخدامه للتقانات والأساليب الزراعية ذات الأثر الفيزيولوجي في زيادة تحمل الإجهادات البيئية المتسببة عن الظروف المناخية القاسية.
وبذلك يمكن القول وفقاً لدرويش إن المفكرة الزراعية لمواعيد زراعة المحاصيل البعلية المحلية قد حدث فيها تغيير خلال السنوات الأخيرة من حيث التأخر في البدء بالزراعة ولفترة تتراوح بين شهر إلى شهر ونصف الشهر أحياناً، فمواعيد زراعة الأقماح القاسية تبدأ محلياً من شهر تشرين الأول وحتى منتصف تشرين الثاني، حيث لوحظ تأخر الزراعة في المواسم الماضية حتى منتصف ونهاية شهر كانون الأول، وذلك بسبب تأخر الهطلات المطرية اللازمة للقيام بتجهيز الأرض وإجراء عمليات البذر، فالرطوبة الأرضية هنا ضرورية للبدء بإنبات الحبوب.
ليس فقط التغيرات المناخية، لاسيما الهطلات المطرية، تعد المؤثر الوحيد في واقع الإنتاج الزراعي ضمن البلد، فالمحاصيل التي تزرع مروية قد لا تتأثر بشكل كبير بهذه التغيرات، على اعتبار أن أغلب هذه المحاصيل ربيعية- صيفية، وهي متأقلمة مع الظروف الحرارية التي تتوافق مع مراحل نموها في أواخر فصل الربيع وخلال فصل الصيف، إذ إن العامل المحدد لنجاح زراعتها في الدرجة الأولى هو الصنف المزروع ومقدار كميات مياه الري المتوفرة، إذ إن المحاصيل الصناعية ومنها الشوندر السكري والقطن التي اعتبرت في سنوات ماضية خلت كمحاصيل استراتيجية داعمة للاقتصاد الوطني، وكانت تؤمن هذه المحاصيل خلال حقبة من الزمن حاجة السوق المحلية من المنتجات ويصدر منها خارجاً ما يفيض، تعاني حالياً من معوقات ومشاكل جمة أفضت إلى توقف زراعتها كلياً في بعض السنوات الماضية.

 

المحاصيل الصناعية التي اعتبرت في سنوات ماضية كمحاصيل استراتيجية تعاني حالياً من معوقات ومشاكل جمة أفضت إلى توقف زراعتها كلياً في بعض السنوات الماضية

قلة كمية الإنتاج
فمحصول الشوندر السكري الذي تمت زراعته عانى من قلة في كميات الإنتاج المتحصلة وانخفاض في النسبة المئوية للسكر ضمن الجذور، وذلك مرده بشكل رئيسي إلى خصائص الصنف المزروع أولاً، ومن ثم لبعض عمليات الخدمة الزراعية المطبقة من تسميد وري. فكما هو معلوم، لا توجد لدينا حالياً مراكز متخصصة لإنتاج البذار المحسن من الشوندر، وما يتم الاعتماد عليه من البذار ما هو مستورد من الخارج، والتي في كثير من الأحيان تكون زراعتها غير مجدية اقتصادياً، هذا الذي كان ملموساً على أرض الواقع من زراعة للشوندر السكري في الأعوام الأخيرة الماضية، حيث كانت كميات الإنتاج غير كافية من جهة ونسبة السكر منخفضة نسبياً، حيث تم توجيه المحصول المستلم من المزارعين كعلف للحيوانات بدلاً من استخدامه في إعادة إقلاع وتشغيل معمل تكرير السكر الذي لا يزال متوقفاً عن العمل إلى يومنا هذا.
هنا لابد من الإشارة إلى أن هذا المعمل لا ينتج فقط السكر بل والمولاس الذي يعد أساساً في تحضير الخميرة المستخدمة في صناعة الخبز محلياً.
أما القطن، فهو ليس أحسن حالاً من محصول الشوندر، هذا المحصول الذي أطلق عليه في سنوات مضت بالذهب الأبيض، فقد انخفض إنتاجه وبشكل خطي عاماً تلو الآخر، في الآونة الأخيرة وعلى الرغم من الجهود المبذولة من قبل الجهات المعنية لإعادة الإقلاع في الزراعة والإنتاج الاقتصادي، إلا أن المعوقات في كثير من الأحيان تشكل عثرة جدية في طريق نجاح زراعة هذا المحصول، لاسيما توفر مياه الري اللازمة، فمن المعلوم أن زراعة القطن تتطلب توفر كميات كبيرة من مياه الري، فهو محصول صيفي متطلب للري خلال فترة حياته من الزراعة وحتى قبل فترة جمع المحصول بحوالي أسبوعين، ويمتاز بمعامل نتح مرتفع يمكن أن يصل إلى ٧٠٠- ١٠٠٠ خلال أشهر الصيف الحارة.
وهكذا فإن زيادة كميات المياه المخصصة لزراعة الأقطان في ظل هذا الشح الحاصل بالموارد المائية المتوفرة، يمكن أن يؤثر سلباً في واقع زراعة محاصيل أخرى بأمس الحاجة لها، ومنها القمح الطري الذي يزرع مروياً أيضاً، هذا القمح الذي يعد الأساس في تحضير الطحين اللازم لصناعة الخبز.

 

زيادة كميات المياه المخصصة لزراعة الأقطان في ظل الشح الحاصل بالموارد المائية المتوفرة يمكن أن يؤثر سلباً في واقع زراعة محاصيل أخرى بأمس الحاجة لها

يمكن الإشارة إلى أنه وفي ظل الظرف الحالي الذي نمر فيه ككل، والواقع الاقتصادي الصعب والزراعي الحرج، لاسيما فيما يتعلق بتوفر المصادر المائية اللازمة للزراعة والظروف المناخية المتغيرة والمضطربة وخصوصاً تلك المرتبطة بالهطل المطري، فإن هذا يتطلب من الجهات المعنية القائمة على العملية الزراعية في المرحلة الحالية أن تلحظ خططها الزراعية المعتمدة لكل عام، ما هو متوفر من إمكانات ومستلزمات لازمة لزراعة المحاصيل ذات الأهمية الاستراتيجية والضرورية لأمننا الغذائي، لاسيما الموارد المائية والمساحات الزراعية المتاحة، وأن تراعي هذه الخطط حسن إدارة هذه الموارد وتنظيم دقيق للإنتاج الزراعي وفق ما يتطلبه السوق المحلي أولاً للاستغناء كلياً عن الاستيراد، ومن ثم البحث لاحقاً في تصدير المنتج الزراعي للأسواق الخارجية.

بدائل

أما وما يتم التفكير فيه حالياً في البحث عن بدائل زراعية، كبعض الزراعات والمحاصيل التي أدخلت مؤخراً في واقعنا الزراعي، كأساس للتصدير، وبغض النظر عن الواقع الزراعي الداخلي وحالة السوق المحلية، فإنه من الممكن أن يكون لذلك مستقبلاً تبعات صعبة، على المستوى الزراعي والاقتصادي، تترك آثارها على واقع أمننا الغذائي المستدام ومستوى التنمية الزراعية التي تغنينا بهم لسنوات كثيرة ماضية خلت.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار