“جْنَافُّو”  شرق أوسط جديد أم نيو-بروتيكتورا شرق أوسطية  رقصة الهزيمة في ربيع الشّهادة 

تشرين- ادريس هاني:

متى كان الاحتلال في كلّ جيل وفي كل زمان لا يسمّي الفدائيين إرهابيين؟ جرّبت الأمم والشعوب هذا النمط من الخطاب الذي يستمدّ معناه من منطق القوّة والغلبة، لكنّنا اليوم أمام هذا الشّطح الإمبريالي الشمولي الجارف للمعنى والأرض، نتحدّث عن أنّ استهداف رأس مقاومة سيفتح الباب للسّلام، لكن ماذا عن الاحتلال؟ لماذا لا تبدأ الرّواية من هنا؟

تستمر رقصة المطر بصخب، تشفيّاً وشماتة في زعيم مقاومة، في مربّع محاصر، فيقضية لا تحتمل إلاّ أن تكون وطنياً أو خائناً، تكامل الأدوار في مسلسل بلا نهاية عادلة، هناك بالتّالي عنف أممي تجاه الشعوب في حالة تحرر وطني.. أي معنى لقول يعتبر الاحتلال في حالة دفاع عن النفس، والشعوب المقاومة في حالة عدوان؟ هذا الانقلاب في القيم والماهية، هو جزء من مهام الإمبريالية.

-من ناحية أخرى، هناك انهيار أيضا في ملكة الحكم، لم تعد المعرفة تجريبية ولا حتى عقلية، فلقد استغنت الإمبريالية في تخاطبها على مصادر المعرفة الأولى: الحواس الخمس، ولا حتى الحس المشترك، تشكيك الرأي العام العالمي في حواسه وملكاته العقلية، بات البديهي مجرد وجهة نظر.

– في هذا السياق، نوبة أخرى من حرب الإبادة انتهت إلى استهداف رمز أساسي في المقاومة، يتعلق الأمر بالشهيد يحيى السينوار، في مشهد سيميائي بامتياز. فالمعنى الذي يعكسه مشهد شهيد مسجّى في حالة مواجهة تنفي كلّ القراءات السابقة التي تدخل في جنس الحرب النفسية، كان الرجل في لحظة شموخ مقاوم، وهو ما يكفي لتكوين صورة عن معنى “المعنى” للوطنية الصّادقة، إنّه في حالة كفاح وجزء من معارك ضدّ محتلّ غارق حتى الثمالة في التّقانة العسكرية. هي سيرة رجل خرج من الأسر وواصل الكفاح كأشدّ ما يكون الكفاح، وبات رمزاً من رموز أمّة مكافحة تمجّد الشهداء، لقد كان مظهر الجسد المسجى في شموخ يعكس هشاشة احتلال ظلّ عاماً كاملاً بإسناد دولي يبحث عنه في حارة، ليجده صدفة في لحظة اشتباك مباشر.

لكن رقصة الهزيمة التي ترى في مقتل قائد حركة كفاح وطني، نهاية المقاومة وفتح طريق للاستسلام لشروط المحتل، هي تخفي في هذا التهريج الخطابي حقائق مستقبل عربي كئيب، شرق أوسط جديد يكون فيه للاحتلال حق استلام الخراج من كل ثرواة العرب المادية والمعنوية مقابل الحماية.

وإذن، وفي هذا السياق، لا بدّ من الحفاظ على وجود عدو أزلي يبرر عودة عصر الحماية، وإنّ عملية البحث عن عدوّ تتطلّب خرائب بين الفينة والأخرى، ولن يترك الإحتلال مهمّته في استكمال الهيمنة على المنطقة، إنّ نزعته التلموذية التي تقوم على الجريمة ضدّ الغوييم، تمنعه من أن يسلك حتى سبيل القوة الناعمة. إنّ الشرق الأوسط الجديد يعني شرقاً أوسط تحت طائلة سلطة وشروط النيو- بروتيكتورا.

لم يترك الاحتلال الشعب الفلسطيني في أمن وسلام، فلقد تربّص بما تبقى من أراضيه عبر الاستيطان القسري، غير آبه بالقرارات الدولية، ولقد اقتحم البيوت وهدمها، وأسر المواطنين وأرعبهم، وبالموازاة سعى لتصفية قضيتهم في مسرح لعبة الأمم، وهو لا يزال يتهدد العرب وينال من سيادتهم. إنّ رقصة الهزيمة تلك، تنذر بزمن يتحوّل فيه العرب إلى عبيد، إنّ الاحتلال سيعيد تشكيل النظم العربية في اليوم الثاني الذي يهزم فيه المقاومة فرضاً، وهي كذلك من باب الافتراض، لأنّ عُمْر المقاومة أطول، ونَفَسُها أطول من الاحتلال. يموت الفدائي فتحيى قضيته، ويموت المحتل فيسقط الاحتلال.

تكمن المفارقة أيضا في أنّ الاحتلال يتحدث عن السلام الذي تصنعه حرب الإبادة التي يتزعمها أكثر قادة الاحتلال انتهاكا للقانون الدولي وأكثرهم استهتاراً بالعالم، وتكمن المفارقة الأكبر في أنّ الإمبريالية ومحاورها يشاركون الاحتلال لعبته، فهم ينتظرون محق المقاومة من قبل احتلال ينطوي على أجندة أبعد من الأراضي المحتلّة، وسيتبيّن يوماً أنّ المقاومة أشغلت الاحتلال كلّ هذه الأجيال من الهزيمة، عن أن يمتدّ إلى خارج مربع النّار. إنّ المقاومة نجحت في وضعه بين قوسين وحاصرته حيث هو.

إنّ استهداف قادة المقاومة سيزيد من منسوب التّحدّي، الاعتراف بأي شعب لن يكون اعترافاً حقيقياً إذا لم يكن اعترافاً بمقاومته، محاولة فرض بدائل عن طلائعه المُكافحة هو استهتار بمصيره وبانتظاراته، إنّ عملية اختزال صورة المقاومة في خصوصياتها الأيديولوجية كمقدّمة لشيطنتها، مغالطة للتشويش على عدالة قضيتها. طبعا، في هذه المعركة، لا يستغني الاحتلال عن أيديولوجيا بديلة جوهرها الاستسلام.

السُّكر بمنطق القوة يفقد أي التزام بقوة المنطق، هناك قوى إسناد من رحم الشعوب، كما أنّ للاحتلال قوة إسناد من رحم الإمبريالية ومحاورها، إنّ الأخطر من ذلك كلّه، هناك حرب إبادة على ما تبقّى من معنى، عصر إبادة العقل والعاقل والمعقول، وهو عصر يتشكّل على وقع رقصة الهزيمة.

لقد اتّضح اليوم أكثر من أي وقت مضى، ماذا كان يُراد بالإقليم، لم يتغيّر شيئ في قراءاتنا، فما الذي تغيّر في قراءاتهم؟ هذا هو حصاد ما لمتمونا فيه، فكفى من العناد والهروب إلى الأمام والتسمّر كالزرزور من فوق السور.

ملاحظة: جنافو، كلمة دارجة محرفة في لهجتنا عن أصلها الفرنسي:(je m’en fou)..

كاتب من المغرب العربي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار