وبكى توشيوكي ميماكي دموعاً نووية.. من هيروشيما وناغازاكي إلى غزة.. كيف يمكن للعالم ‏أن ينسى/العالم لن ينسى/لا يحق له أن ينسى؟

تشرين – د. رحيم هادي الشمخي:

بقصد أو من دون قصد، حققت الأكاديمية السويدية المانحة لجوائز نوبل، وأشهرها/ نوبل ‏السلام/.. حققت أمرين مهمين: الأول مفاجئ، والثاني متميز، وذلك عندما اختارت منح جائزة ‏السلام لهذا العام 2024 للناجين من القنبلتين النوويتين الأميركيتين على مدينتي هيروشيما ‏وناغازاكي اليابانيتين، والذين تمثلهم منظمة «نيهون هيدانكيو» اليابانية، ويُعرفون باسم ‌‏«هيباكوشا».‏
لا شك في أن الاختيار كان مفاجئاً، فهو لم يكن متداولاً، سواء على المستوى العام أو على مستوى ‏التوقعات، وأن يتم اختيار هذه المنظمة بالذات ففي هذا أكثر من مفاجأة لما يحمله من استعادة ‏وتذكير وإدانة لأبشع الجرائم ضد الإنسانية التي شهدها القرن الماضي على يد الولايات ‏المتحدة الأميركية، هذا الاختيار يمثل توثيقاً مستمراً وعميقاً للجريمة الأميركية الموصوفة ‏بالزمان والمكان والفاعلين، والشهود الأحياء ممن لا يزالون يعانون نفسياً وجسدياً، ويرفضون ‏أن يطوي التاريخ هذه الجريمة وهم الذين أقسموا على إبقائها حيّة حتى بعد رحيل آخر شاهد ‏عليها.‏
ولاشك أن هذا الاختيار يمتاز بخصوصية كبيرة، فهو إلى جانب وسم الولايات المتحدة مرة ‏أخرى كقاتل لم يشهد التاريخ له مثيلاً إلا القاتل الإسرائيلي، فهو أيضاً يمتاز بأنه يعيد الاعتبار ‏والثقة والتقدير لهذه المؤسسة التي أراد مؤسسها، ألفريد نوبل، أن تكون تكفيراً واستغفاراً عن ‏ذنب اختراعه الديناميت، كان نوبل، وهو كيميائي سويدي، يظن أن اختراع الديناميت الذي ‏توصل له عام 1867 سيكون وسيلة للتطور والتقدم، لكنه اكتشف أنه صار أداة للقتل والدمار، ‏الأمر الذي جعله يشعر بذنب كبير أراد أن يكفر عنه، فأوصى بتخصيص معظم ثروته ‏وأملاكه لإطلاق جائزة عالمية تحمل اسمه، وصارت هذه الجائزة، على مر السنوات والعقود، ‏الأرفع عالمياً.. وتباعاً أضيفت لها جوائز أخرى مثل الطب والكيمياء والفيزياء والأدب.‏
لا يخفى على أحد كيف لعبت السياسة دوراً سلبياً جداً في العقود الأخيرة على هذه المؤسسة ‏وعلى اختيار من تُمنح لهم الجوائز، وبشكل خاص جائزة السلام التي مُنحت في مرات كثيرة ‏لمن لا يستحق. كما لم تسلم الجوائز الأخرى من السلبية السياسية ولكن بدرجة أقل مما هي ‏عليه الحال في جائرة السلام، باعتبارها تمنح حاملها شرفاً عالمياً تاريخياً في خدمة سلام ‏البشرية وحماية الحياة الإنسانية.‏
وتنافس على جائزة نوبل للسلام هذا العام 286 مرشحاً، منهم 197 فرداً (من بينهم أنتونيو ‏غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة) و89 منظمة (من بينها منظمة غوث وتشغيل اللاجئين ‏الفلسطينيين/أونروا). لذلك يُقال إن السياسة أيضاً لعبت دورها في هذه الدورة من حيث الابتعاد ‏عن كل الترشيحات المثيرة للجدل والخلافات، لتختار منظمة لا يمكن إلا الاتفاق عليها.‏
الرئيس المشارك لمنظمة «نيهون هيدانكيو» توشيوكي ميماكي عجز عن حبس مشاعره ‏فأطلق دموعه لتحكي جزءاً بسيطاً جداً من لحظة جحيم نووي بدا وكأنها دامت دهراً.. لحظة ‏واحدة فقط نشرت الموت والدمار بأقسى وأفجع صوره، وبما لا يمكن لإنسان تخيله. ‏
ميماكي قال خلال المؤتمر الصحفي بعد إعلان حصول المنظمة على جائزة نوبل للسلام أمس ‏الأول الجمعة: لم أحلم أبداً بأن هذا يمكن أن يحدث.‏
وحول الهدف، قال رئيس لجنة نوبل، يورغن واتني فريدنيس: إن اللجنة اختارت تكريم ‏المنظمة لجهودها المبذولة من أجل عالم خالٍ من الأسلحة النووية ولإثباتها، عبر شهادات، أن ‏الأسلحة النووية يجب ألا تستخدم مجدداً بتاتاً. وأشار إلى أن «جائزة هذا العام تركز على ‏ضرورة الحفاظ على هذه المحظورات النووية. علينا جميعنا مسؤولية، خصوصاً الدول ‏المسلحة نووياً». ‏
وفي بيان الإعلان عن الجائزة, قالت لجنة نوبل: سيأتي يوم لن يكون «الهيباكوشا» بيننا ‏كشهود على التاريخ، ولكن بفضل ثقافة التذكر القوية والالتزام المستمر ستحمل الأجيل المقبلة ‏تجربة ورسالة الشهود فهم يلهمون الناس في جميع أنحاء العالم ويعلمونهم، وبهذه الطريقة ‏يساعدون في الحفاظ على المحرمات النووية، الشرط الأساسي لمستقبل سلمي للبشرية.‏
وسط هذا المشهد ما كان لفلسطين إلا أن تكون حاضرة، فهي أيضاً ضربها «نووي» إجرامي ‏صهيوني لا يقل عن نووي أميركا ضد هيروشيما وناغازاكي، وإذا كان نووي أميركا أصاب ‏أهل مدينتين فقط في اليابان فإن نووي الكيان الإسرائيلي ضرب شعباً كاملاً، قتلاً وتدميراً ‏وتهجيراً، وهو مستمر منذ حوالى ثمانية عقود، وبعدّاد ضحايا مفتوح تجاوز حتى الآن، ضحايا ‏هيروشيما وناغازاكي (ونحن لن نقلل من حجم ومعاناة ضحايا هيروشيما وناغازاكي ولكن ‏لندلل على حجم إرهاب وحشي دموي يضرب الشعب الفلسطيني منذ عقود، وهو يضربه منذ ‏عام كامل بصورة أشد في قطاع غزة وصولاً إلى الضفة الغربية ولا يزال قائماً يمتد ليضيف ‏إليه منذ نحو شهر الشعب اللبناني).‏

لذلك كان الاستحضار واجباً، حيث شبهت المنظمة الوضع في قطاع غزة بالوضع في اليابان ‏في نهاية الحرب العالمية الثانية. وقال ميماكي: في غزة أهل يحملون أطفالهم المضرجين ‏بالدماء، الأمر يشبه اليابان قبل 80 عاماً.‏
هناك من يرى أن منح نوبل السلام للناجين في هيروشيما وناغازاكي مرتبط بشكل مباشر ‏بارتفاع منسوب التهديد النووي في ظل الاضطرابات الجيوسياسية التي يشهدها العالم في ‏السنوات الأخيرة والتي تصاعدت خلال العام الحالي مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ثم ‏لبنان، يضاف إلى ذلك الحرب الأوكرانية القائمة منذ عام 2022 والتي ترفع بدورها منسوب ‏القلق العالمي فيما يخص الأسلحة النووية، وحيث يكاد الصراع بين الدول التي تحوزها يصل ‏ذروته.‏
هنا لا بد من لمحة عامة عن منظمة «نيهون هيدانكيو» التي تأسست في عام 1956، للدفاع ‏عن حقوق الناجين الذين يواجهون تحديات صحية واجتماعية طويلة الأمد بسبب التعرض ‏للإشعاع. جميع مسؤوليها وأعضائها من الناجين الذين يتضاءل عددهم مع مرور الوقت. وقد ‏بدأ عملهم بعد نحو عقد على دمار هيروشيما وناغازاكي.‏
يقول موقع المنظمة إن العدد الإجمالي لـ«الهيباكوشا/الناجين» الذين ما زالوا على قيد الحياة ‏والذين يعيشون في اليابان يصل إلى 174080 شخصاً. وهناك عدة آلاف منهم يعيشون في ‏عدة أجزاء من العالم.‏
وما زال العالم يحيي ذكرى هاتين القنبلتين اللتين ألقتهما الولايات المتحدة الأميركية على ‏المدينتين اليابانيتين في آب 1945 لتحسم بهما الحرب العالمية الثانية لمصلحتها وحلفائها. ‏
المفارقة الصارخة هنا أن اليابان عندما تحيي هذه المأساة فإن أميركا تكون حاضرة بممثل لها، ‏وتحيي اليابان المناسبة بكلمات وبيانات لا تأتي على أميركا، ومن غير المعروف ما إذا كان ‏ذلك بسبب علاقات التحالف التي تربطهما، أم أن لليابان وجهة نظر أخرى في هذا الإطار.  ‏
ولا تزال شهادات الناجين تحظى باهتمام واسع، ويتم تناقلها بكل ما تثيره من ألم وأسى على ما ‏حل بالمدينتين وأهلهما، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية من خلال ربط كل ذلك بحاضر عالمي ‏مظلم، ليس مستبعداً أن نشهد في أحد أيامه من يضغط الزر النووي محولاً العالم إلى نفس ‏جحيم هيروشيما وناغازاكي.‏

كاتب وأكاديمي عراقي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار