لا يمكن هزيمة ثورة

إدريس هاني:

يسعى الاحتلال الذي ينتشي هذه الأيّام بمسلسل الاغتيالات السياسية وإبادة المدنيين لإخفاء فشل ذريع في تحقيق أهداف استراتيجية، مؤشرها الحقيقي: إيقاف نشاط المقاومة وتفكيكها، يسعى إذاً لفرض خيار الحرب الشّاملة التي وحدها تفسّر كيف وثق الجميع بقواعد اشتباك ممتنعة عن الاختراق. فحينما تستبد فكرة تدمير الإقليم بهدف إعادة إنتاجه على أساسها مشروع شرق أوسط جديد من تحت رماد الحرب الشّاملة، تصبح القضية لها علاقة بالمخاطرة.
هذا الشكل من التّردد بين خصمين، أحدهما يملك حسّ المخاطرة والثاني ملتزم بقواعد الاشتباك، يعكس تواصل طرشان فقدوا اللغة المشتركة لقواعد الاشتباك.
إنّ استهداف المدنيين والاغتيال السياسي بات حكراً على الاحتلال، المشكلة في نهاية المطاف تجاوزت كل حدود القانون الإنساني الدّولي، حيث بدأت القصّة من الـ(BGR)، ليس فقط من حيث هي جريمة استهدفت المواثيق الدولية للأمن التجاري الدّولي، ليس من حيث عدد الضحايا المدنيين الذين أصيبوا في هذه الجريمة، بل من حيث أنّ الحرب باتت هجينة، حرباً وسط النّاس، هذا ما يفسّر صعوبة التّواصل، لا سيما في إطار التدابير الارتدادية الاستعجالية لاحتواء ما يسمى بالاختراق، وهو في الحقيقة قرار خارق لقواعد الاشتباك، قرار لم يأبه بروادع القانون الإنساني الدولي.
في مقابل ذلك تسعى الحرب النّفسية التي يتولاّها الإعلام، والذي يستهدف مناعة البيئة الحاضنة للمقاومة، والحديث عن اختراق قيادات المحور وبثّ الشكوك، وهي طريقة كلاسيكية لم تؤثّر في البيئة ومن يهمهم الأمر، باتت الميديا فسحة مؤقّتة لتمرير خطابات لا تساعد على فهم الوقائع، بل هناك خطابات غارقة في الشّماتة والتبسيط والطّمع في أدوار حالمة.
نحن إزاء وضع يشبه مطاردة من يشتبه فيهم الاحتلال، حتى لو كانوا مدنيين، مطاردات تكاد تكون كوبوية، فالاحتلال يقوم بالإرهاب وليس الحرب، أي يسعى لتحقيق أهداف سياسية بالإرهاب وليس بالحرب، وحين يصبح الإرهاب امتداداً للسياسة بدل الحرب، فهذا نمط في الحرب، سبق أن فشلت فيه قوى التحالف الدّولي في المنطقة، فالنموذج الإرشادي القديم للحرب بات حرباً بين الناس كما ذهب روبرت سميث وهو يستوحي مقاربته من خبرته الفاشلة في حرب الخليج الثانية التي باءت بالفشل.
ماذا يعني أن يخرق الاحتلال كل قواعد الاشتباك؟
يبدو أنّ المحور يدرك أنّه ليس في مواجهة مع احتلال مجرد، بل هي معركة يقف الغرب مسانداً لها بل حاضناً لها، ولا يمكن للاحتلال مهما بدا من تجاوزات قيادته الحالية أن يتجاوز إرادة الحليف الغربي المعني بمصير الاحتلال، إنّ ما تبقى اليوم أمام الاحتلال هو العدوان على إيران، وتحديداً مفاعلها النّووي، وهو حلم الاحتلال منذ سنوات جرياً على ما فعله بالمفاعل النووي العراقي عام 1981، ولو كان باستطاعة الاحتلال فعل ذلك قبل سنوات لما تردّد، لكنه يدرك كما يدرك الغرب أنّ هذا يمنح إيران فرصة التّحول إلى ثورة خالصة من جديد، وتتجاوز  قواعد اشتباك الدّول، فعشرون مليوناً من الباسيج أو قوات التعبئة هم في كامل الجهوزية، وما اقتضى منطق الدولة من إخفائه من الأسلحة غير التقليدية، كافٍ لإحراق المنطقة، لكن إلى أي حدّ يستطيع الاحتلال ضرب مفاعل نووي إيراني مجزّأ على امتداد دولة-قارة، دون أن يحتاج إلى عشرات العمليات، هذا إن تجاهلنا مضادات الطائرات والأعماق السحيقة لِلمُفاعل، وكون الاحتلال يحتاج إلى عشرات الهجومات على مفاعل غير مركز في منطقة واحدة، يكون الإيرانيون قد شنّوا هجومات صاروخية بحمولة مضاعفة التفجير لتدمير المفاعل النووي بديمونا، هنا يلعب الفارق الجغرافي دوراً كبيراً، فإيران تستطيع تحمّل ضربات كثيرة، لكن الاحتلال ونظراً لضيق المساحة وانكشاف بنك أهدافه أمام الإيرانيين، سيخسر لعبة القصف المتبادل. حتى الآن يبدو الاحتلال وحلفاؤه وقعوا في تضليل استخباراتي مصدره الجماعة المنشقة “خلق” التي تكذب كثيراً في تسويق نفسها بأساليب ممسرحة، فالمعلومات التي تقدّم هي بمثابة إنشاء لعملاء على معرفة بمعلومات سطحية قد تجلب بعض الأضرار لكنها عاجزة عن الإحاطة بكل شيء، ثمّة تجار أزمات، وهذه المرّة انتعش سوق العملاء الذين هم بدورهم يستغلون لهفة الاحتلال وحلفاؤه لأي معلومة، وكثيراً ما يضلّلونهم، لأنّ غايتهم تحقيق مصالح شخصية قبل أن ينفد ما في جعبتهم، بل أحياناً يكملون الباقي من بنات الخيال والقياس.
لكي ينفذ الاحتلال ضرباته على إيران، هذا يعني سلامة القواعد التي سينطلق منها الطيران، وهي معرضة للتدمير في أوّل عملية قصف محتملة، بل سبق أن أعلن الطرف الإيراني نيته في تدمير كل قاعدة في المنطقة ينطلق منها طيران الاحتلال لقصف الأراضي الإيرانية.

إنّ تدمير المفاعل النووي الإيراني بات مستحيلاً، لتعقيد الإجراءات الأمنية، وإن تم احتمال قصف بعض مراكزه، هذا ما نبّه إليه أفنير كوهين بالـ(هآرتس)، الذي تحدّث بما يكفي من الأدلة على أنّ إيران بلغت العتبة التي تمكنها من صنع القنبلة النووية، إلاّ أنه-يقول أفنير كوهين- إنّ مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية لا يمنع القنبلة بل يسرع صنعها.
ويبدو من الأهمية التّأكيد على أنّ القيادة الإيرانية هي ضامنة بقوة الفتوى الصادرة عن “الولي الفقيه” لعدم صنع القنبلة النووية، أقول ضامنة، لأنّ تلك الرغبة قد تكون واردة في منظور وحسابات سياسية، ولكن طالما تكتسي طابعاً فتوائياً، فهي خارج التقييم السياسي، ليبقى السؤال: هل بالإمكان تغيير الفتوى بناء على شروط وعناوين مستجدة، وحكم ثانوي بديل، إذا ما توقّف عليها حفظ النّظام العام ومقتضيات الدّفاع، كما هو متاح بموجب اتباع الأحكام لعناوينها عند القوم؟
واضح جداً أنّ ثمة قنبلة نووية من طراز آخر هي ما يسعى الاحتلال وحلفاؤه لاستهدافه، وهو طبيعة النّظام الرّاعي لحركات الإسناد والدّاعم للمقاومة. فالاحتلال يدرك ذلك تماماً، ويدرك أنّ إيران تستطيع أن تدافع عن نفسها بقدراتها الصاروخية المتطورة، والتي جعلت منها قوة صاروخية متقدمة عالمياً، فضلاً عن مسيراتها القاتلة، ومقاتليها المعبّئين لحرب طويلة الأمد، دون أن ننسى أنّ هذه الحرب إن وقعت فستكون قد اقتربت من حدود أوراسيا، ستجعل روسيا مدركة لمخاطر هذا الاستهداف وكذلك الصين.
في المساعي الأخيرة التي كثفت من التواصل مع قيادة الاحتلال من قبل حليفه الغربي، ما يحمل تخوّفات من المغامرة في حرب مفتوحة مع إيران، ما دام أنّ ضربة غير كافية من شأنها أن تجرّ المنطقة إلى حرب يصعب إنهاؤها، بل إن حرباً كهذه لن يكون لها من التالي سوى حرب عالمية يلعب فيها النتنياهو بالنّار.
إذا ما تخطت إيران العتبة، وتحولت إلى دولة نووية كما يقول أفنير كوهين، فحتماً سيصبح الصراع بين إسرائيل والمحور الإيراني صراعاً نوويّاً، وهو ما وصفه الكاتب بالسيناريو الكارثي.
ومع ذلك، فإنّ استهداف المنشآت النفطية ستنجم عنه نتائج وخيمة، هي ما شكلت مخاوف الغرب من أي مغامرة من هذا القبيل، حتى في حال ضُربت تلك المنشآت، فإنّ موجة ارتفاع سعر برميل النفط ستبلغ منتهاها، وهو ما سيتسبب في خلق أزمة عالمية.
من هنا، وكما ذكر رفيف دروكر في الصحيفة نفسها، مذكراً بمقولة لوزير الدفاع السابق عمير بيرتس، بأنّ من يبحث لنفسه عن صورة انتصار في صراع مع تنظيم، لن يجدها، ففي نهاية المطاف ستثبت الخلية الأخيرة التي تنجح في إطلاق الصاروخ الأخير أنها لا تزال حيّة وبصحة جيدة.
بالنسبة لإيران وسائر المحور لن يؤدّي الاغتيال السياسي إلى ما يعتقد الاحتلال أنّه رادع، فالكل يذكر أنه في عام 1981 استهدف عدد من كبار قادة الثورة، مثل محمد حسين بهشتي الذي كان يشغل رئاسة السلطة القضائية، حين تمّ تفجير مقر الحزب الجمهوري وقتل 72 قيادياً، منهم وزير الصحة ووزير الاتصال ووزير النقل ووزير الطاقة، بل وفي السنة نفسها تعرض رئيس الجمهورية محمد علي رجائي لعملية اغتيال، هذه الأحداث يحوّلها الإيرانيون إلى عامل تعبئة مضاعفة، وإلى إصرار كبير على الثّأر المقدّس، إن كان هناك مثال أوضح على ذلك، فإنّ كل الاستهدافات تنتهي برفع إيقاع المعركة، فبعد أن كان الاحتلال يتوفر على امتياز نقل الحرب إلى داخل المناطق العربية بعيداً عن مجاله الداخلي، فإنّ الحرب اليوم باتت تستهدف عمق الاحتلال، لا شيء هناك بات ممتنعاً عن القصف. ففي الطرف الآخر هناك تفكك للكثير من أساطيره.. في احتكار الردع، في القبة الحديدية، في تفوّقه البرّي.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار