عن آلام الحروب وأناسها… هل السعادة خيارٌ أم كينونة؟!

جواد ديوب:

أفكر بأولئك المهجّرين الذين غادروا بيوتهم طوعاً أو قسراً، سواء غادروها إلى غربة بعيدة أو إلى مكان جديد داخل بلادهم، أو إلى بلدٍ شقيق مجاور… أفكر كيف يستعيدون، بسرعة وإصرار مذهلين، ما كانوا درجوا عليه من عادات صغيرة في بيوتهم السابقة، وكأن أرواحهم لا تسكن، وأفكارهم لا تستقيم إلّا إن أعادوا ترتيب شكل غرفهم الجديدة كما عهدوا تلك القديمة؛ مكانَ الطاولة والتلفزيون، مكانَ جلوسهم حول الطعام، أماكنَ نومهم لعلّ أحلامهم تتمكن من العودة إليهم عبر طرقٍ سريّة، وكل تلك التفاصيل التي كوّنتهم ونحتت شخصياتهم، وجعلتهم يألفون أنفسَهم كما هي عليه.
كأن “أفعال الإنسان” كلّها محاولاتٌ متكررة للحفاظ على ذاكرته كما يريد لها أن تكون؛ وعلى روحه كما كانت، بل على حياته التي يعيشها بحيث لا تتشوه بفعل الحروب والكوارث و مرور الزمن وتقلبات الوقائع. محاولاتٌ للحفاظ، ولأكبر فترة ممكنة، على شكل وجوده، شكل علاقاته، وتلك الأفعال البسيطة اليومية نفسها، حمايتها من الانسحاق تحت مجنزرات الحرب أو التصدع بأي تغيير جذري يقلب حياته، أو يخرّب تلك الألفة التي عاش فيها، وذاك التكرار الأليف للأشياء من حوله.
هكذا يركض الناس خلف سعادة متشعِّبة على شكل متاهة، فرحٍ غامضٍ كثقبٍ أسود، أليست مفارقة مؤلمة أننا صرنا نلهث خلف السعادة كصيادٍ يطارد فريسته فيما نحن أصلاً “طرائدُ” تفرّ مذعورةً من الفجائع والقذائف وفقدان الأحبة؟ ربما هي كذلك؛ فلا معنى للسعادة إن لم تسعَ خلفها، كما لا معنى لكلب الصيد من دون طريدته، ولكن حينها، في هذا السعيّ المحموم، هذا الهذيان الراكض؛ الشيءُ الأكيدُ الذي نخسره من دون أن ننتبه هو إنسانيتنا!

متى وكيف نشعر بالسعادة؟!
يجيبنا الكاتب (ميهالي سيكزنتميهالي) في كتابٍ نادر عنوانه (علم نفس السعادة) بترجمة مميزة وفريدة من الدكتور (غسان بديع السيّد)، حين يقول متسائلاً:
“هل قَدَرُ الإنسانية أن تبقى غير راضية، وكل شخص يرغب في امتلاك أكثر مما يستطيعه؟ هل الضّيق الذي يُفسِدُ غالباً لحظاتنا الجميلة يأتي من حقيقة أن الفرد يبحث عن السعادة في أسوأ مكان؟… ومتى يشعرُ الناس أنهم أكثر سعادة؟”! ويجيب الباحثُ بفقرة لاحقة مختصِراً مجمل الكتاب الذي هو إجاباتٍ مفصّلة عن الأسئلة الجوهرية أعلاه. فيقول ما معناه:
“بعد عشرين سنة من البحث اكتشفتُ أن السعادة ليست شيئاً يأتي مصادفة أو نتيجة للحظّ، ولا تعتمد على شروطٍ خارجية، إنما على طريقتنا في تفسير وفهم تلك الشروط الخارجية. السعادة تجربةٌ داخلية على الإنسان “إعدادها” و”تنميتها” و”حمايتها”، وعلى الناس أن يتعلموا السيطرة على طاقاتهم الذاتية، ومراقبة انفعالاتهم الجسدية والعاطفية بدرايةٍ ومعرفةٍ… وبذلك يمكن الاقتراب مما يمكن أن نسمّيه “الكائن السعيد”!.

دروع الثقافة الواقية!
ولذلك يحلّل “ميهالي” سوسيولوجياً (اجتماعياً) في فقرة “دروع الثقافة الواقية” أمراض المجتمعات على اختلاف طبقاتها أو تصنيفاتها، وكيف يدخل أفراد المجتمع في “القلق الوجودي”، فـ”الكونُ لا يعمل من أجل رفاهيتنا، وليسَ عدوانياً ولا وديّاً، هو فقط غير مكترث”، ومن هنا تأتي أولى مآسينا التي حاولنا تجنّبَها عبر أساطيرٍ ابتكرها الإنسان كي يطمئنَّ، “لأن عدم الإشباع المزمن” و”الحرمان الذي يطبع بعمق مسار حياتنا كلها” هي الأسبابُ العميقة و”جذور عدم الرضا” الذي يضرب بعمق نفوسَ البشر ويجعلهم يلجؤون إلى “الدين، الفلسفة، والفن، وبعض الرفاهيات” بوصفها دروعاً واقية من أن يُصابوا بالتوتر والقلق تحت وطأة السؤال الوجودي الدائم: “ما جدوى الحياة؟ وهل تستحق الحياة منا كل هذا العناء؟” ، وكي لا ينهار كل شيء حين ينظرون إلى المرآة التي تُظهر تجاعيدهم وآلامهم الجسدية، ويصارحون أنفسهم بأسئلة مثل: أ مِنْ أجل كل هذا عشت؟ هل هذه هي الحياة التي تمنيتها؟ أو “كيف لم أنتبه إلى أنني لم أعش حقيقةً وأنّ كل ما عشته مجرّد أوهام”!

نظرة نقدية!
لكن الباحث (ميهالي) في غوصه العميق نحو تجربة السعادة كـ “عمل نفسي داخلي” أقربَ إلى استنهاض المقدرات الكامنة عبر ما يشبه رياضة “اليوغا” الروحية/الجسدية… ينسى الحديث عن البشر وقت الحروب وزمن الأشلاء ولحظة انخساف الأجساد والأرواح تحت القصف… ويكاد يتحول كتابه -على الرغم من جمالياته الكثيرة- إلى مجرد دراسة “تنظيرية” داخل مختبرات الجامعة التي يُدرّس فيها، لولا أنه يشير إشارة خجولة إلى أن: “تجربة السعادة المثالية” قد لا تكون أخلاقية أو “قد لا تكون إيجابية بالمعنى الأخلاقي…ويضرب مثلاً حالةَ نابليون في عيشه لسعادته الشخصية التي تسببت بمقتل آلاف البشر ودمار عشرات البيوت، في مقابل تجربة السعادة المثالية عند (الأم تيريزا) التي عاشتها من خلال تقليل معاناة الفقراء والمهمّشين في العالم)!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار