كانت الأحداث العاصفة تجري، لكن بعيداً، على “الجبهات”! بعد كم من الأيام، كانت الرسالة تصل من أبٍ في “الداخل”، إلى ابنه المقاتل في الجبهة؟ تُكتب الرسالة وصاحبها لا يعلم إن كانت ستصل أم لا، لأن طريق البريد وعرٌ غيرُ مرئيٍّ إلّا في خيال القلق والخوف والاشتياق والأمل، حيث إن الخلاء واسع وكبير بين الجبهة والداخل! هكذا كانت الجغرافيا تفصل بين عالمَيْن، حتى يعود من الميدان من يرمّم هذه “الفجوات” بالسرد والحكايات!
لم يرَ آباؤنا ما جرى لأبنائهم على الجبهات الشمالية في “سفر برلك” لأن زمانهم كان بطيئاً محكوماً بالجوع يبحثون فيه عن حبة الشعير وليس عن رغيف الخبز، لم يسمعوا هدير المدافع وهي تقصف جيوش بني عثمان لتقوّض امبراطورية الظلم والظلام وتقتل فيمن تقتل أبناءهم غيرَ المُؤَهّلين أصلاً لأي نزال غير نزال الموت المجاني، ولم يروا سنابك الخيول وهي تعدو فوق أرض يتنازع عليها صاحبٌ وغريب!
عندما توقفت الحرب العالمية الأولى، صارت أحداثاً تُروى على مسمَع من لم يكن في ساحات نارها وبارودها، وكذلك كانت المذابح التي جرى بعضها قريباً جداً من الأعناق لكن في ظلمة ليل وضمير كـ دير ياسين وكفر قاسم! لقد وصلت إلى الأسماع بعد أن خمدت أنفاس الشهداء بأسابيع وربما بشهور، مثلها مثل زلزال قلعة “شيزر” البعيدة في الزمان!
كانت الجريمة البشرية تحصل بكامل حيثياتها من دون نقصانٍ في عناصرها: قاتلٌ وضحية بل ضحايا، على مدى الجغرافيا الأرضية، ثم تنتقل بالشفاه والتدوين، أما اليوم فقد انتُزعَت الجموع من “سُباتها” وجُرّت جرّاً إلى “صخب الحروب” و”ميادينها”! لم يعد ابنُ هذا العصر قادراً على البعد عن القصف والتدمير حتى وهو تحت سقف وبين جدران، ففي نفس لحظة نسفِ برج سكني في مدينة بعيدة سيكون شاهداً على هذا الدمار، وسيسمع فوراً صرخات من سُجن تحت أنقاضه، وينتظر الإنقاذ كأنه هو الذي نزل البرجُ فوق رأسه! وهو نفسه كان قد عايش زلزالاً وحرائق غابات وغرق سفن بنفس الطريقة لأن الوسائل الناقلة صارت تتقدم منه بسرعة مذهلة واستولت عليه بكل حواسه، وفي طريقها الكاسح، عطّلت عنده لحظات التفكير والمحاكمة والتفحص لأنها انتزعته انتزاعاً بقبضتها المحكمة من عالمه الذي تحكمه إيقاعات حفظ البقاء في مهنة يرتزق منها وعائلة بعيش بينها، وجعلته طائعاً مختاراً، أو مجبراً، واحداً من جند دوائر النار، حيث يبقى عليه أن يختار في أي جبهة سيكون، وما الدور الذي سيؤديه فيها!
نهلة سوسو
123 المشاركات