من سوق عكاظ إلى اليوم.. المنابر والنقد والتذوق!!
تشرين- محمد خالد الخضر:
لا يختلف النقد عن كتابة الشعر وسواه من الأجناس الأدبية، فالنقد أيضًا يعتمد على الموهبة، التي تأتي بعفوية وانطباع صادقين.
فسوق عكاظ كان في عصر ما قبل الإسلام، حيث كانت تلتقي جماهير الشعر في ملتقى حافل متدفق، يلتفون حول فحول الشعراء والخطباء والبلغاء مصغين إليهم لسماع كل الأشكال الأدبية وأجناسها ويسألون عن أمور في صميم النقد العربي حيث تعتمد على ذوق فطري في إبداء رؤية أفكارهم وإظهار بلاغتهم.. ومن النقاد الذين ذاع سيطهم في الشعر والنقد، النابغة الذبياني.. حيث كانت تضرب له قبة حمراء بسوق عكاظ فيأتي إليه الشعراء وتدور الخلافات الثقافية كما حصل بينه وبين حسان بن ثابت الذي قال منشداً:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دماً
فقال له النابغة:
أنت شاعر لكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت ولن تفخر بمن ولدك.
وأنشدته الخنساء رثاء أخيها صخر إلى قولها:
وإن صخراً لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
فقال النابغة: والله لولا أن أبا بصير أنشدني لقلت إنك أشعر الجن والإنس، وهو يقصد الأعشى.. فقال حسان:
والله لأنها أشعر من أبيك ومن جدك وتقبل النابغة اعتراض حسان على الحكم بعصبية الشاب المغرور وإعجابه برؤية الشيخ الناقد وحكمته، فقبض على يده برفق وقال: يابن أخي لا تحسن أن تقول مثل قولي:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقد جاء النابغة بهذا البيت لأنه ابتكار لم يسبق إليه، لما يمتلكه من صور ولكي يسوغ حكمه في تفضيل الخنساء قال النابغة: أنشديه يا خنساء. فأنشدته، فقال والله مارأيت أشعر منك، فقالت له فاعتبرت نفسها بعد حكم النابغة أشعر العرب.
هذا بعض ما كان يدور في سوق عكاظ وفي مجالس الثقافة التي يعتبرها بعض المتطورين الآن في عصر جاهلي..
وإذا استحضرنا ما قيل من شعر ونثر وحكايات سيندثر أغلب ما يكتب الآن، أغلب أبناء الساحة الثقافية، الذين تحولوا إلى نقاد، فالباحثون وأمثالهم صاروا يتصدرون وراء المنابر ولم يبقَ كتاب لوجه جميل إلا واخترعوا له مسطلحات نقدية، فتحول الآن سوق عكاظ إلى سوق آخر تباع فيه الخضار وتفرش لديه ( البسطات )!!
وهاجرت حفيدات الخنساء وحفداء النابغة وحسان بن ثابت وعنترة العبسي وأقفلوا أبواب منازلهم عندما يصل الحضور في أي موسسة ثقافية وهم من أقرباء المشارك، وتكون الحالة قد وصلت إلى القمة.. تعالوا نعيد بعضاً من ذكريات عصور التطور ونخرج من التبعية، إلى عالمنا الأصيل.