حرب تشرين التحريرية من 1973 إلى 2024.. الأمة في المرحلة الأخطر فلنحصن ساحاتنا ونوحد معاركنا
تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
عشية الاحتفاء بالذكرى الـ51 لحرب تشرين التحريرية، تعمدت المقاومة العراقية أن تعلن بشكل أوضح وأوسع أنها لن تكون على الحياد في أي مرحلة من مراحل المواجهة مع العدو الإسرائيلي (والأميركي). الإعلان تم بمسيرتين (أمس الأول الجمعة) حصدتا جنديين و25 جريحاً، باعتراف العدو نفسه، الذي رد مهدداً وبأن التنفيذ سيكون كبيراً وقريباً. أسقط العراق بمسيرتيه كل رهانات أميركا على أن ضغوطها طيلة الفترة الماضية على المستوى الرسمي (وهناك ضغط ميداني أيضاً) ستنجح في تحييد العراق، لتستفرد «إسرائيل» بغزة ولبنان. جن جنون «إسرائيل» واسترسل إعلامها في عرض ما يشكله العراق على مستوى اكتمال طوق جبهات الإسناد الداعمة لغزة ولبنان.
كان لا بد أولاً من إسقاط مسار انهزامي كامل واستعادة الثقة لتحقيق التضامن وامتلاك زمام القرار وإرادة الفعل وقوة التخطيط ثم الانطلاق في حرب لهزيمة العدو
لن يُخيف العراقيين أن يدرجهم كيان إرهابي دموي على قائمة الاستهداف، ولن يدفعهم للتراجع عن خوض معركة هم في القلب منها، لقد كانوا أول المستهدفين بالعدوان من قبل أميركا والأطلسي في عام 2003، وما زالوا، لذلك هم معنيون بكل معركة وكل مواجهة، فكما دارت دائرة الدوائر على جميع العرب، دولة تلو دولة، بعد الغزو الأميركي عام 2003 ضمن ما سمي زوراً وعدواناً بالربيع العربي، ستعود دائرة الدوائر إليه مرة أخرى، ولا بد من المواجهة.
لا يمكن للعراقي إلا أن يكون مع غزة ولبنان، ومع سورية، ولا يمكن إلا أن يكون جزءاً من معركة الإسناد، وتالياً المعركة الشاملة في حال فرضت أو استدعاها مسار العدوان الإسرائيلي. لذلك لا يمكن للعراقي إلا أن يكون معنياً بحرب تشرين التحريرية وما أفرزته من معادلة ردع استمرت ماثلة لنصف قرن في مواجهة العدو الإسرائيلي.
لا يمكن للعراقي إلا أن يشارك السوريين في كل عام احتفالهم بذكرى حرب تشرين التحريرية، وفي ذكراها الـ51 لهذا العام كان لا بد من تأكيد اللحمة العراقية – السورية ووحدة الهدف والمصير على قاعدة العدو الواحد والنصر الواحد.
لم يكن لحرب تشرين أن تنتهي هكذا من دون أن تمتد في مسارات جديدة تستكمل النصر وترسخ قواعد الردع بما يحمي مسيرة البناء والتطوير مع البقاء على أهبة الاستعداد
يرى الشعب العراقي نفسه الأقرب إلى الشعب السوري، ويرى أنه الشعب الذي يمكنه في لحظة واحدة كسر كل حواجز الجغرافيا والسياسة ليلتقي مع الشعب السوري في معركة واحدة، ويبدو أنها تقترب، ولا بد من الاستعداد لعلها تكون نصراً «تشرينياً» جديداً.
لا شك في أن المواجهة اليوم أصعب في ظل أن العدو الإسرائيلي والأميركي بات مُعلناً بشكل سافر، بمخططاته وأهدافه، بإرهابه ومجازره، ولكن ألم يكن الحال كذلك ما قبل حرب تشرين التحريرية، وإن كان لكل مرحلة ظرفها الإقليمي والدولي، ونحن هنا لا نتحدث فقط عن حلف العدوان الأميركي الإسرائيلي، بل عن مسار انهزامي نفسي/ معنوي انسحب على كل الأمة بدءاً من نكبة الـ48 مروراً بنكسة الـ67 وما بينهما، وما تلاهما، حتى بات الانهزام «ثقافة مُعممة».
هزيمة هذا المسار كانت الأصعب. كان لا بد من هزيمته أولاً، كان لا بد من إحياء الأمل، من استعادة الثقة، لاستعادة التضامن. كان لا بد من كسر الجدار، جدار الهزيمة والانهزام والتردد، لامتلاك زمام القرار وإرادة التنفيذ، وقوة التخطيط والتدبير، والثقة بأن تحقيق النصر ليس من رابع المستحيلات، كما يُقال، وأن الهزيمة ليست قدراً محتوماً على الأمة.. كل هذا لا بد من تحقيقه قبل الانطلاق في حرب لهزيمة العدو، وهذا ما نجحت به حرب تشرين.
بعد هذه الحرب، ليس كما قبلها، كانت إيذاناً وإنذاراً، للعدو الإسرائيلي وداعمه الأميركي بأن معادلات المنطقة تغيرت، وأن أسطورة الردع الإسرائيلي سقطت، وأنه لا بد من الاعتراف والرضوخ لناحية التعامل مع منطقة جديدة، مع سورية جديدة، مع فلسطين جديدة، ولبنان جديد، وعراق جديد… والأهم مع مقاومة جديدة.
في هذه المرحلة الأخطر لنعد إلى حرب تشرين إلى حرب لا تزال منذ 50 عاماً، حاضرة تقض مضاجع العدو الذي يهدد بإشعال المنطقة لإعادتها إلى دوائر الإذعان والارتهان
لم يكن لحرب تشرين أن تنتهي هكذا من دون أن تمتد في مسارات جديدة تستكمل نصر تشرين، وترسخ قواعد الردع بصورة غير قابلة للكسر، وحتى تتفرغ سورية ودول المنطقة لمسيرة البناء والتطوير، وتستقل عسكرياً واقتصادياً كما استقلت سياسياً. كان لا بد من تدعيم الاستقلال ومسيرة البناء، وهذه لا تكون إلا بالاستمرار على أهبة الاستعداد، مادام أن العدو ما زال على مرمى عين، وهذا ما كان.
بعض الأنظمة العربية ربما احتاجت وقتاً أكثر من غيرها لفهم نصر تشرين وما أرساه من قواعد ردع وقوة، ومن ضرورة أن تعي الأمة أنها الأقوى في أي مواجهة وفي أي تحدٍ، هذا ما يُفترض، وهذا ما يجب أن يكون، لا تفتقر الأمة إلى أيٍّ من عوامل القوة، لكنها افتقرت إلى إدراك حجم القوة التي تمتلكها وكيف يمكن إدارتها في الصراع مع العدو.
لا أحد ينكر أن الأنظمة المعنية سجلت مساراً مختلفاً في العقدين الماضيين، وأرست قواعد جديدة في السياسة والاقتصاد على مستوى العلاقات الدولية، لكنها تستطيع إنجاز أكثر من ذلك بكثير على مستوى موازين القوى والقوة الدولية، وعلى مستوى المكاسب والامتيازات المستحقة لمن يملك القوة والإمكانيات، خصوصاً الاقتصادية التي تتمتع بها الدول العربية.
لا شك أن الأمة (والمنطقة عموماً) في مرحلة فاصلة حاسمة، في لحظة تحول تاريخي تحتم على الجميع تحمل مسؤولياته، وإلا سيكون أحد الضحايا ويسقط من حسابات التاريخ والجغرافيا.
إذاً.. لنعد إلى حرب تشرين التحريرية، إلى حرب ماتزال منذ 50 عاماً، حاضرة تقض مضاجع العدو الإسرائيلي وحليفه الأميركي، ماتزال مدار بحث ودراسة، ومقترحات وخطط معلنة وغير معلنة، لاحتواء منطقة خرجت عن سيطرة دوائر الارتهان للغرب وعن ربط مصيرها بما يقدمه لها، وهو عملياً لا شيء، ومع ذلك يجب عليها أن تشكره على هذا اللاشيء، بل عندما يقرر هذا الغرب أن يعيدها إلى دائرة الاستعمار والغزو، ويمارس على شعوبها ما يريده من قتل وتدمير ونهب، لابد أن تبقى ساكنة راضية، لا تقاوم ولا تقاتل، لأنها غير قادرة على المقاومة والقتال.. حرب تشرين أسقطت كلياً هذه العقلية الاستعمارية، وإن افترضنا أنه نجح في غزو العراق وتحقيق هدفي إسقاط الدولة والتدمير في سياق مخطط إرهابي كبير للاستفراد بدول المنطقة وتحييدها واحدة تلو الأخرى بما يعيدها إلى حقبة ما قبل حرب تشرين 1973، فإن شهر تشرين نفسه وبعد 50 عاماً أعاد كل هذا المخطط إلى نقطة الصفر، أعاده إلى حرب تشرين الأول من عام 1973.
كل شيء بدأ من جديد في 7 تشرين الأول من العام الماضي 2023 مباشرة غداة ذكرى نصف قرن على نصر تشرين، ولم ينتهِ أي شيء، لم يتمكن العدو رغم جبروت إرهابه قتلاً وتدميراً في أوسع جغرافيا ممكنة، من أن يستعيد زمام الميدان، زمام الحرب.. العدو الإسرائيلي ومن ورائه الأميركي يهدد كل المنطقة اليوم، بدولها العربية وغير العربية، يريدها حرباً شاملة، حرباً مفتوحة أبداً حتى يتحقق له الانتصار فيها.. من هنا فإن الرد والمواجهة مسؤولية كل دول المنطقة، ليكون الحسم والردع بأيدينا طالما أن المعركة علينا وعلى أراضينا.
أكاديمي وكاتب عراقي