لم يحفظوا درس الصرّار «الصرصار» والنملة
ادريس هاني:
حينما تشترط أن يكون احترامك للآخر أو التضامن مع قضاياه هو أن يتماهى معك، فهذا عصبية وليست من الأنسنة في شيء. مجرد استحضار الخلاف في سياق قضية عادلة، هو ميل عميق للعدوان، ومجرد تكرار الجمل الاستدراكية ولازمات نظير: ولكن أو حتى لو، وإن هو تعبير عن هشاشة حضارية،.. فلا تهتزّ فرائص الإنسان من الآخر إلاّ لأسباب تفضح كلّ هذا المسرح التّقدّمي المفتوح على تضليل النّوع:
– واحدة منها الذات والاجتماع المنغلق
– غياب النزعة الحضارية تحت طائلة الهمجية
– الجهل بحقيقة أنّ العالم هو مجال الكثرة لا الوحدة
يصعب أن تتوحّد الكائنات على شيء مهما تظاهرت به، ففي المجتمعات المتجانسة تحضر النِّسب العالية في الجريمة المنظمة والعدوان، وكل المجتمعات بما فيها الأكثر انسجاماً هي معرضة بالقوة لحرب أهلية، ما لم تنجح في تدبير الخلاف الحتمي للنّوع. إنّ النزعات العنصرية والإقصائية والتكفيرية هي نزعات همجية تسكن في أحشاء كائن …
– بلهارسيا الهزيمة المزمنة
تتيح الديمقراطية وأنسنتنا – لا الأنسنة الفاقدة للوجه – تفهّم كلّ أشكال التعويض العِباري الذي ينتهي إلى تبخيس كلّ مكسب تحرّري، فمثل هذه الإنجازات هي مؤلمة لذات محبطة ومهزومة إلى حدّ باتت هي نفسها تؤمّن الرقابة الذاتية على هزيمتها. وجب تفهّم عدوى البلهارسيا، وجب تقدير القوى التي لا تستطيع أن تتحدّث عن منجزات تحررية إلّا بلغة التهوين والتشكيك.. إنّهم يتألّمون أكثر مما يتألّم العدوّ.
لا يخشى مرضى بلهارسيا الهزيمة من تقدّم العدوّ، لأنّ ذلك يعفيهم من مسؤولية الموقف التّاريخي، ولودّوا بذلك أن يواصل العدوّ ضرباته، فهم في الخطاب الهزائمي يكشفون عن عقدة استوكهولم، وبأنّهم حفظوا درس العدوّ جيّداً، ويستبقونه إلى تمجيد انتصاراته والتشنيع على المقاومة، لأنّ الإدمان على الهزيمة يتجاوز فعل خسران معركة، بل يستمرّ في ذاكرة الأجيال وينزل إلى قعر الأعماق السحيقة للسيكولوجية الجماعية، ليتحوّل كخطاب مُغالط، كالذي نشاهده اليوم ويصدم من لم يقف على التحليل النفسي للأمراض النفسية والعقلية للهزيمة.
وبما أنّ هذا المُركّب لا يسمح لحامله بأن يكون له فرصة لإبراز قوته وشجاعته، فهو يعبّر عنها تحت سقف الهزيمة ودفاعاً عنها. ويا لها من مُفارقة. فعنترياتهم تزداد حيث ليس لها كُلفة آنية. إنّه طريق سهل غير مكلف، طريق الهزيمة الذي تحوّل أصحابه إلى غربان تزعق بالتشنيع خوفاً من سقوط الاحتلال، وخوفاً من تفكك أساطيره التي زادوها تمكيناً، وهذا نصيبهم من إسناد الاحتلال تحت طائلة صبيب من الثُغاء.
لا تستعجل تاريخاً أنت فيه صرصار ينتشي بمغالطاته الشّفوية، فالذي يفتح أبواب التّاريخ ويغلقه، هم الأسود الزّائرات. لا أحد من صنّاع التّاريخ يأبه لصرير الهزيمة، وطرّاري الشيكل والبترو- بقشيش، التّاريخ التّحرّري يُصنع في خط النّار الأمامي ولغة الفُرسان وزئير الأسود، فعربة التّاريخ ماضية، ولا بدّ من الأُنس. هذا المسار الطويل بكل صرير ونقيق ونهيق ونباح وزعيق وزُقاح وفحيح وطنين وأزيز وعرير، وهلمَّ جرّا، من أصوات الحيوانات المصابة بالطاعون.
كاتب من المغرب العربي