فرط استراتيجي

لنتحدث أقرب إلى لغة القراءة الدولية للرد الإيراني، أي قراءة الزعماء الدوليين خصوصاً على المقلب الأطلسي، حتى ندرك فعلياً قيمة ومكانة هذا الرد على خريطة المنطقة، وإذ نقول بقراءة الزعماء الدوليين فنحن نقصد ما لا يقولونه، وفي الوقت نفسه لا يستطيعون نكرانه في سلوكهم وتصريحاتهم، قبل وخلال وبعد، ولأشهر مقبلة ربما.
وبقدر ما نستطيع علينا الابتعاد عن قراءات محللين ومراقبين، خصوصاً في منطقتنا، مجندين بالأساس وفق ولاءاتهم ووفق القنوات التي يتحدثون منها ولها، ومن ضمن ذلك مسألة الترزق من خلف كل ذلك، والهدف هو تقزيم الرد الإيراني وتقديمه في صورة الفاشل، فقط لأن «الاعتراض» كان ناجحاً حسب الولايات المتحدة وكيانها.. علماً أن مسألة الإعتراض كانت محسومة لكونها متوقعة، حيث مضادات الاعتراض جاهزة طوال تسع ساعات انتظاراً لوصول المسيّرات والصواريخ الإيرانية، وهذا أمر يمكن لأبسط الناس معرفته وفهمه فكيف إذا ما كانت إيران بالأساس أبلغت العديد من الدول بشكل ونوع وحجم الرد؟.. وعليه تم الانتقال مباشرة إلى الهدف الأساسي لإيران من وراء تنفيذ رد معلوم مسبقاً زماناً ومكاناً وأهدافاً.. إيران نفسها كانت تعلم أن الاعتراض سيكون في انتظار مسيّراتها وصواريخها، لكن الهدف لم يكن هنا، بل في قرار التنفيذ ومنطلقه ببعده الأكثر استراتيجية على المديين القريب والبعيد.
بعد تجاوز مسألة «الاعتراض الناجح»، التي ربما للوهلة الأولى توقف عندها الكثيرون، إلى مسألة القيمة الحقيقية للرد بعيداً عن كل اللغط الذي واكبه بين ناجح أو فاشل، عفوي أو مبرمج، معلوم أم نصف معلوم، ولمصلحة أي طرف صبّت النتائج؟ ليس هذا هو المعيار الذي يَصُح لنزن به الرد، لنلاحظ كيف أن وسائل الإعلام الغربية/ الأميركية، وحتى الإسرائيلية، كانت أكثر دقة وشفافية بقراءة الرد الإيراني، لقد كان حدثاً غير اعتيادي أوقف العالم كله على رجل واحدة، يده على رأسه محاولاً استعادة التوازن والاتزان في تنسيق رد الفعل، أي لناحية التصريحات والمواقف التي يجب إعلانها أو إضمارها، صحيح أن الولايات المتحدة وعدداً من الدول الكبرى وكذلك دول في المنطقة، أبلغتها إيران بكل ما يتعلق بردّها «وكان هذا الرد مرتقباً منذ يوم الخميس الماضي، وفق تصريحات أميركية، ثم من غير المعلوم لماذا تأجل التنفيذ إلى ليلة الأحد الماضي».. صحيح أن هذا الإبلاغ كان قائماً إلا أنه لم يكن ليقلل منه كحدث فوق اعتيادي، أو بعبارة أدق «فرط استراتيجي» إذا جاز لنا التعبير، وضع أمام الجميع خطوطاً حمراء ليس في التعامل مع إيران فقط، بل في التعامل مع منطقة بات قرارها بيد دولها، وبالدرجة الأولى قرار الحرب والسلم.
الإعلام الغربي نفسه يعترف بأن الرد الإيراني «تجاوز خطاً جديداً» ووضع الغرب وجهاً لوجه أمام «لحظة الحقيقة» وأنه بات مجبراً حالياً على لجم الكيان الإسرائيلي عن أي رد فعل، لن يكون الغرب بمقدوره التعامل مع تبعاته، وهذا ما بدا واضحاً في التصريحات الأميركية.. وعليه فإن الكيان لن يكون بمقدوره تنفيذ أي رد «منفرد» بعيداً عن الدعم الأميركي.. لقد كان الرد الإيراني المدروس بعناية شديدة وحكمة بمنزلة «بروفة» لما سيكون عليه رد إيران التالي على أي «رد إسرائيلي»، لنتحدث فقط عن عامل الجغرافيا، ونتخيل ما إذا كان طوفان الصواريخ والمسيّرات الإيرانية انطلق من جغرافيا أقرب، عندها هل سيكون الاعتراض ناجحاً؟.. حتى العامل الجغرافي الأبعد لم تكن للكيان قدرة على رده واحتاج إلى أن تتقدم أميركا لإسقاط الصواريخ والمسيّرات.. العامل الأميركي نفسه لم يعد مجدياً للكيان بعدما أسقطت إيران بردّها القاعدة الأساسية القائمة على أن الوجود الأميركي في المنطقة يردع الجميع عن مهاجمة الكيان أو استهدافه.
اليوم بعد الرد الإيراني، هناك حقيقة واحدة تتمثل في شرق أوسط جديد لم تعد فيه الكلمة العليا لأميركا، وهذا سينعكس حكماً على الكيان.. فأميركا وكيانها اليوم أمام معضلة غير قابلة للحل، وهي: كيف نرد؟ كل التوقعات / النصائح تنحو باتجاه اللا رد، وإذا ما حدث ذلك فهذه نقطة نهاية ستتدحرج الولايات المتحدة بعدها إلى هزيمة استراتيجية جديدة، بمفاعيل كارثية على الكيان الإسرائيلي.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار