كلُّ نص لي قطعةٌ من روحي الشاعرة سعاد محمد: أنا صادقة إلى أقصاي مع الشعر
تشرين- ثناء عليان:
من بوابة قصيدة النثر دخلتِ الشاعرة سعاد محمد محراب الشعر دون أي مقدمات، واستطاعت استقطاب أقلام النقاد، والاستحواذ على رضاهم ورضا معظم من قرأ لها بسرعةٍ كبيرة، وفي شغلها في “بيت القصيد” الذي تبني فيها بتوءدة مداميك قصيدتها مجازٍ إثر مجاز؛ صدر لها إلى اليوم ثلاثة دواوين وهي: “الغريب، عال هذا السرج، تيمنناً بالورد” وقيد الطباعة ديوان بعنوان “نذور للغزال”.. عن تجربتها الإبداعية كان لـ “تشرين” هذا الحوار:
الشعر لا يعيش في جلباب العادة
حديث عن القصيدة
* ما يُلفت النظر في مسيرتكِ الشعرية، هو أنكِ دخلتِ محراب الشعر بدون أي مقدمات من بوابة قصيدة النثر، وعادةً يتدرَّج الشعراء في كتابة الشعر ويكتبون القصيدة العمودية، ثم التفعيلة، ثم النثر.. كيف تفسِّرين الأمر؟
**الشعر لا يعيش في جلباب العادة، وبالتالي لا تنتظري من شاعر أن يمشي على درب التوقعات، فالماغوط اقتحم بوابة النثر ولم يغادره قط.. فالشعر لا يؤطر.. أما بالنسبة لي فكانت بداياتي البعيدة مع القصة القصيرة، ثم انقطعت فترةً طويلة عن الكتابة، لأجد نفسي متلبسة بقصيدة النثر
النثر عصفور يستغيث بجناحيه فقط..
* برأيكِ، هل لاتزال تعاني قصيدة النثر في سورية من جمود في التلقّي، ومن قُصور في فهم رموزها ومعانيها وشكلها التجديدي؟ وما الأسباب؟
**نعم لاتزال، لكن بعد أن كابدت قصيدة النثر ما كابدته، وكأنها ابنة غير شرعية للأدب، أجد الآن العداوة أخف وطأة.. استقبلتها بحفاوة أبواب كثيرة غير متوقعة، وهذا يدل على أن قوة وجودها وتطورها أكسباها الكثير من الأصدقاء، الذين أدركوا أن رفضهم لهذا الكائن الأدبي لن يئده، ومن ناحية أخرى فقد اكتشف (الطرف الآخر من الشعراء) بعضاً من محاسنها، فتقبلوها.. ولا يمكن نكران وجود فئة من الأدباء المتشددين الذي استمروا في رفضهم انتماء النثر للشعر، لدرجة أن تعبير قصيدة النثر يجرح مشاعرهم الأدبية!.. وأجد أن القراء العاديين الذين لا يكتبون الشعر أكثر تقبلاً لقصيدة النثر، لأن ذائقتهم حرة من التسميات والتوصيفات وسطوة الغيرة الأدبية!..
الشاعر الجيد ينجح في خلق تحالف بين الوعي واللاوعي.. بين الفكر والإحساس
عن الشاعر الحقيقي
* منَ الصعب على أيِّ شاعر أن يحقق جماهيرية واستقطاباً لأقلام النقاد السوريين بمجرَّد ظهوره على ساحة الأدب، فكيفَ نجحت سعاد محمد في سرقة الأضواء النقدية والاستحواذ على رضا زملائِها الشعراء الكبار بهذه السرعة؟
**ببساطة أقول لك إن الشاعر الحقيقي يمتلك إحساساً متوهجاً يصيب قارئه بالعدوى، فأنا صادقة إلى أقصاي مع الشعر، وكل نص لي قطعة من روحي، وصوته يقولني تماماً.. ومن ناحية أخرى، أنا حريصة جداً على تطوير نصي، أدأب بإخلاص للبحث عن الجدة، وأواظب على تثقيف أدواتي التعبيرية..
روحي ابنة الأدب، وفكري خلاصة تلاقح أفكار الأدباء الذين قرأت لهم
* عُقد في دمشق اجتماع الأمانة العامة لاتحاد الكتاب على مستوى الوطن العربي، وكانت سورية الدولة المُضيفة، وكان المنبر متاحاً لكِ إلى جانب أكبر الشعراء العرب، حدّثينا عن انطباعكِ بهذا الظهور؟
**أصدقك القول..إني عدت من ذاك المهرجان بشعورٍ وحيد، هو أن المناخ الشعري في المنطقة العربية حالياً عاصف والريح خليلية، بينما النثر عصفور يستغيث بجناحيه فقط..
* يُقال إن الشاعرة سعاد محمد هي شاعرة الصورة، والرمز، والتشكيلات اللغوية والموسيقا الداخلية، والحالة الوجدانية معاً، كيفَ لقصيدتكِ أن تكون حاضنة لكل هذه العناصر الجمالية معاً؟
**لو لم تكن قصيدتي كما وصفتها لما كنت شاعرة.. القصيدة بناء وإحساس، إن غاب أحد هذين المكونين صارت عبئاً على الشعر.. الشاعر الجيد ينجح في خلق تحالف بين الوعي واللاوعي، بين الفكر والإحساس.. فالقصيدة كائن ينبض بالحياة ويحتاج إلى رعاية كبيرة، وبقدر ما نغدق عليه من الاهتمام يكبر، فنكبر معه..
عن الإرهاصات الأولى
* في العادة تشكِّل المكتبة المنزلية عُنصراً رديفاً ومُلهماً في حياة الشاعر، ما حال المكتبة المنزلية عند سعاد محمد؟ وما هي أبرز المرجعيات الثقافية التي كوَّنت المشهد الإبداعي العام لديكِ؟
**إن روحي ابنة الأدب، وفكري خلاصة تلاقح أفكار الأدباء الذين قرأت لهم في عمري المبكر، مع الاحتفاظ بخصوصيتي.. فقد حالفني الحظ جداً من هذه الناحية.. أمضيت طفولتي في بيت فيه من الكتب أكثر مما فيه من المفروشات.. ولك أن تتخيلي هذه المعمورة من الكتب: الأساطير المختلفة، عدد مهول من الروايات العالمية لمؤلفين مرموقين، وأيضا الشعر العربي الموزون بمختلف أزمنته وساداته.. بالمختصر، رضعت الثقافات المختلفة، وكانت الكتب ألعابي، وقد ترك هذا الأمر بصمات واضحة على ذائقتي ونوافذي الفكرية والشعورية..
* طرطوس مدينة أنجبتْ رائداً كبيراً من رواد قصيدة النثر، الشاعر الراحل محمد عمران، مَن مِنَ الشعراء السوريين أثارَ إعجاب الشاعرة سعاد محمد، وكوَّن لديها انطباعاً جيداً كمتلقية مُلهمة؟
**أنا من المعجبين جداً بالماغوط.. عمقه الفطري وشاعريته الساحرة (غير المثقفة) انتجا قصيدةً صادقة لأبعد مدى.. أراه يقضم براعم الشعر الندية كماعزٍ جبلي، ثم يلتفت صوب بلاده البعيدة البعيدة عنه هناك في قلبه ثم يثغو ببكائية يرشح دمعها إلى روح قارئه، إنها الشاعرية البكر.. رغم أني ألومه جداً على رمادية المشهد الذي يحتوي المرأة في قصائده، لمست وجودها ناقصاً، كانت كشيءٍ أو حاجة، ولم ألحظها في أي قصيدة ككيانٍ مكتمل أو روح لها احترامها الوجودي.
المؤسسات تضيّق على المبدع ولا تستوعب هالته الكبيرة..
* هل تُلبِّي برأيكِ المؤسسات الثقافية حاجة الأديب السوري إلى الانتشار وإلى تعزيز تجربتهِ ونمائِها؟
** المؤسسات تضيّق على المبدع، ولا تستوعب هالته الكبيرة.. والإبداع أكبر من حجم أي مؤسسة، التي هي بنهاية الأمر مجموعة من الموظفين الحريصين على تنظيم العمل الأدبي ليحقق أهدافاً محددة مسبقاً ولمصلحة عامة، وبالتالي لن يُشغل بالها خصوصية المبدع، فالإبداع فردي وحر وليس عملا مؤسساتيا..
* إلقاؤك على المنبر الأدبي يُضفي رونقاً أجمل على القصيدة، هذهِ شهادة عامة منَ المتابعين لشِعرك. إلى أيِّ حدٍّ يلعب الإلقاء دوراً في استقطاب المتلقي، وهل يُمكن للإلقاء الجميل أن يغطي على عيوب قصيدةٍ ما.. لشاعرٍ ما؟
**الإلقاء المتقن هو الذي يحدث بجسد الشاعر بكليته، كل ما في الشاعر حينها يتقطر شعراً، في هذه الحالة تجذب القصيدة انتباه المتلقي وتتملك حواسه لترتقي به إلى أسمى اللحظات الشعورية، لدرجة أنها تشتت انتباهه عن الكثير من نقائص النص الأدبي.. منذ فترة انتبهت لأغنية ساحرة لعبد الحليم حافظ، سمعتها من قبل كثيراً، والجميع مأخوذ بها مثلي، وقفت عند كلماتها بمعزل عن اللحن العبقري والأداء العظيم للمطرب، تفاجأت بأن الكلمات هزيلة جداً..
* تطرحُ قصائدك تساؤلات فلسفية، وفيها معابثات ومشاغبات لغوية لافتة للنظر إلى جانب الخيال المحلّق، هل يمكن أن تسعفينا بمثالٍ على ذلك؟ (إيراد مقطع شعري من اختيارك)؟
**
الحزنُ جَدٌّ حنون..
لكنَّ أياديه سلالٌ والحظُّ ماء!
جدُّنا الآخرُ الّذي مردُّهُ إلى نحلةٍ هربَ من دخان الهويّة!
كطمعٍ النّخلةِ في السّماء..
نتسلّقُ القصائدَ بحثاً عن الأيّامِ العسليّة
لستُ أدري من ورّطنا بمنادمةِ المقيمين في الصّور؟
طفلٌ انسلَّ من انتباهنا وكسرَ آنيةَ الواقعِ الخزفيّة؟
أمْ..
إنَّ حبّةَ القلبِ زارها المطرُ في المنامِ
فصارتْ قبّةً..
حطَّ عليها نسرُ الشّعرِ..
ليحرسَ قمرَ الوحدانية؟