ليس تبرئة لـ«داعش»، ولكن أن نتهم «داعش» فقط ونعتبر هذا الاتهام بمنزلة «نقطة انتهى» وبما لا يجوز بعده التحقيق والتدقيق وكشف الملابسات والخلفيات، بمعنى التسليم بأن «داعش» يعمل منفرداً ووفقاً لأجندته وأهدافه وبما لا يمكن معه الرد عليه وعلى إرهابه، وتالياً إغلاق الملف وكأن شيئاً لم يكن.. فهذا ما لن يحدث، ولن يمر، خصوصاً إذا كنا نتحدث عن روسيا وعن الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له يوم الجمعة الماضي، وتبناه تنظيم «داعش» الإرهابي، مستهدفاً قاعة كروكوس للحفلات الموسيقية.
لا يمكن لروسيا- في سياق الحرب الأوكرانية والصراع مع الغرب عموماً، وفي سياق تطورات عالمية شديدة الخصوصية والتوتر والتوتير- الركون إلى حالة أن المسألة كلها، أي الهجوم الإرهابي، يمكن اختصاره بـ«داعش» فقط، ليكون رد الفعل وفق هذا الاختصار.. حتى المتلقي العادي «العام» لا يمكن إقناعه بذلك فكيف بدول تتنافس وتتصارع وتتواجه في ساحات عالمية عديدة، من ضمنها منطقتنا، وعندما يتعلق الأمر بروسيا واستهدافها بهجوم إرهابي فهنا لا يمكن بأي حال استبعاد الخصوم والأعداء وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، وليس خافياً على أحد، الخدمات «الاستراتيجية» التي يقدمها- وما زال- تنظيم «داعش» الإرهابي للولايات المتحدة وفي كل ساحات المواجهة مع الخصمين الأساسيين لها، روسيا والصين، وبما يصب تماماً في تثبيت حقيقة أن «داعش» هو صناعة أميركية.
لا يُبرئ أميركا أن يخرج «داعش» على الفور ليتبنى الهجوم، ولا يُبرئ أوكرانيا أن تخرج أميركا على الفور لتدافع عنها وتعلن أنها غير متورطة، فيما كان الإعلام الأوكراني المرتبط بنظام زيلينسكي يتحدث بشماتة وغل عما تعرض له مئات الأبرياء الذين كانوا ضحايا الهجوم.. كما لا يُبرى أميركا الإعلان عن أنها «شاركت الجانب الروسي معلومات حول الإعداد لهجوم إرهابي في موسكو» فيما رد الجانب الروسي بأنها كانت معلومات عامة من دون تفاصيل، أي بلا قيمة فعلية.. ثم كيف توصلت أميركا إلى استنتاج بأن أوكرانيا غير متورطة، هل سألت زيلينسكي، وهل لديها معلومات، فلتشاركنا بها وتبرئ ساحتها وساحة النظام الأوكراني، أم إن الهدف هو نقل الصراع مع روسيا إلى مرحلة أشد خطورة؟
هذا السيناريو هو الأكثر منطقية وإقناعاً، ومن هنا كان الحديث الروسي عن أنه لا يجب «التسرع» في الاستنتاجات، حسب السفير الروسي لدى واشنطن أناتولي أنطونوف، الذي أضاف: ستكشف السلطات الروسية المختصة من كان وراء هذا العمل الإرهابي، فهذا النوع من العمل يتطلب الصبر والتروي.
الحديث الروسي لا يعني أن المنفذ ليس تنظيم «داعش» الإرهابي، وإنما يعني من يقف وراءه ومن أعطاه الأمر بالتنفيذ، وليس مستغرباً أن يتم الربط بين هذا الهجوم والولايات المتحدة الأميركية التي تسجل سياساتها حالة فشل عالمي مزمنة، خصوصاً بمواجهة روسيا «والصين» وحيث أوكرانيا ساحة صراع أساسية.. ألم يتم القبض على المنفذين وهم يحاولون الفرار عبر أوكرانيا، ألا يعني هذا تورطاً أوكرانياً من نوع ما، وهذا التورط الأوكراني ألا يقود في نهاية المطاف إلى أميركا، أليس من المنطقي أن يقود الفشل الأميركي- الغربي في أوكرانيا إلى عملية تغيير في السياسات والتكتيكات وبما يمنع هزيمة حتمية باتت ضمن المدى المنظور، وتالياً لا بد من العودة إلى العمليات الإرهابية، التي ما زال الغرب وأميركا يرى فيها أداة فعالة للتحريض والتحشيد والتأليب، أي محاربة الخصم من الداخل.. أليس هذا ما فعلوه وما زالوا يفعلونه في منطقتنا، ألم يكن «داعش» أداة التنفيذ الرئيسة؟
رغم ذلك، ورغم أن المأساة التي خلّفها هذا الهجوم الإرهابي بحق عشرات العائلات الروسية التي فقدت فرداً أو أكثر، أو التي تنتظر شفاء جرحاها، فإن هذا الهجوم يكشف الكثير خصوصاً أنه جاء غداة فوز الرئيس فلاديمير بوتين بولاية جديدة من ست سنوات وبنسبة فاقت الـ87 بالمئة، تأكيداً من الشعب الروسي بأنه مع بوتين يداً بيد، فهل كان الهجوم رسالة؟ نعم، كان كذلك، لكنه في الوقت نفسه يكشف إفلاس أميركا والغرب في مواجهة روسيا، في ميدان أوكرانيا، وفي غيره من الميادين.. ويكشف أيضاً أن المواجهة الغربية- الروسية تتجه نحو سيناريو أوسع وأشد خطورة وبما سينعكس عالمياً مزيداً من الاضطرابات.. والحروب.
مها سلطان
57 المشاركات