في سنوات «ربيعنا الأسود» وقبله سنوات الثورات الملونة «وهي سوداء أيضاً»، وكلاهما قامتا على العنف والتدمير والاضطرابات الداخلية التي انحدرت في أغلبها إلى حروب أهلية، وغير خاف على أحد أن أميركا هي من مهد وجهز وجند ومول وسلح، وهي في النهاية من خرج رابحاً على حساب الشعوب التي ازدادت انقساماً وعوزاً، وعلى حساب الدول التي ضعُفت وتزعزعت أركانها، وانهارت في أغلبها أو هي في وضعية الانهيار وإن كانت لا تزال تحتفظ بمسمى دولة.. وغير خاف أيضاً أن السفارات الأميركية في هذه الدول «دول الربيع العربي والثورات الملونة» كانت المحرك الرئيسي على الأرض حيث كانت الأوامر تصدر منها، وفي الكثير من الدول المستهدفة كانت هذه السفارات تجاهر وتتبجح بدورها باجتماعات وبأوامر مباشرة، وبتبني المجموعات التي كانت تتحرك لإسقاط هذه الدولة أو تلك «أو النظام حسب التعبير الأميركي».
في تلك السنوات درجت نكتة، بقدر ما هي للتندر والتهكم، بقدر ما كانت صحيحة «وبصورة مرّة لناحية الدور الأميركي من جهة ولناحية نجاحه في كل مرة حيث تنساق الدول وراء هذا الدور وكأنها لا تقرأ ولا تعرف أميركا وما ينطوي عليه خبث دورها ضد كل العالم».
والنكتة هي عباره عن سؤال مفاده: لماذا لا تقوم حرب أهلية في أميركا؟.. والجواب: لأنه لا يوجد فيها سفارة أميركية.
هناك من ضحك على هذه النكتة، وهناك من توقف عندها، ولسان حاله يؤكد المعنى المبطن لها والمتعلق بذلك الدور الأميركي الخبيث والمدمر، ونحن في المنطقة أكثر من يعرفه، وما زلنا نعيش ويلاته.
اليوم، يتم استحضار هذه النكتة على خلفية تطورات موضوع الهجرة على حدود ولاية تكساس – المكسيك، و«تمرد» الولاية على الأوامر الفيدرالية وطرد عناصر الحرس الوطني «الفيدرالي» وإعلانها أنها ستقوم بنفسها، بمعزل عن الإدارة المركزية في واشنطن، بإدارة ملف الهجرة وصولاً إلى إغلاقه نهائياً، ويأتي ذلك على خلفية اتهام سلطات ولاية تكساس «المحسوبة على الجمهوريين» ودونالد ترامب إدارة الرئيس الحالي «الديمقراطي» جو بايدن بتشجيع الهجرة غير الشرعية وبما ينعكس آثاراً اقتصادية واجتماعية مدمرة.
ولم تكتف سلطات تكساس بذلك، حيث انتشرت أخبار حول تهديدها بالانفصال، والاستعداد للدفاع عن نفسها بمواجهة الإدارة المركزية، أي إدارة بايدن، وهي أخبار انتشرت كالنار في الهشيم ولم يخفف من وقعها نفيها من قبل سلطات الولاية، فلا دخان من غير نار، خصوصاً وأن الأزمة مستمرة منذ أسابيع وتتصاعد بصورة دراماتيكية لدرجة أن البعض داخل أميركا وخارجها بات يحذر فعلاً من انفصال الولاية، وهذا لن يتم طبعاً إلا بصورة عسكرية، أي حرب أهلية بين الطرف «الذي هو هنا تكساس» وبين المركز «الذي هو هنا إدارة بايدن».
وبسبب تاريخ تكساس «منذ كانت تابعة للمكسيك – وقبلها إسبانيا ثم فرنسا – ثم الانفصال والاستقلال عن المكسيك في عام 1835 وبعدها الانضمام إلى الولايات المتحدة الأميركية في عام 1845» ونزعة الاستقلال التي لم تختف لدى أهلها، فإن مثل هذه الأحداث التي تدور فيها تشعل مخاوف كبيرة، وتصبح هذه المخاوف أكبر وأكبر، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن أغلب تاريخ الولايات الأميركية يشبه تاريخ تكساس، خصوصاً الجنوبية وأبرزها تكساس باعتبارها ثاني أكبر الولايات مساحة بعد ألاسكا، وسكاناً بعد كاليفورنيا.
ولأن الوقت في أميركا وقت انتخابات، فإن مسألة تكساس باتت تتصدر أكثر فأكثر، وبالأساس ملف الهجرة هو أحد الملفات الرئيسية في هذه الانتخابات، ولأن المصائب لا تأتي فرادى فإن بايدن والديمقراطيين يجدون أنفسهم في أزمة تلو الأزمة، بدءاً من منطقتنا وجبهة غزة المفتوحة، إلى البحر الأحمر، إلى العراق وسورية، إلى الدور المنكفئ عن الشرق الأوسط، إلى حرب أوكرانيا وصولاً إلى الملفات الداخلية.. وكل هذه الأزمات هي فرص مثالية للجمهوريين وترامب الذين لا يكفون عن صب الزيت على نارها، واليوم تمثل أزمة تكساس الفرصة الذهبية، التي يؤجج ترامب من نارها بإعلانه «مع الولايات الجمهورية» الاستعداد لمؤازرة تكساس.
قبل عام من الآن عندما كان يتم نشر تحليلات وتوقعات حول احتمالات اندلاع حرب أهلية في أميركا، كان رد الفعل المباشر والرئيسي الاستهزاء بها والقول بأن هذه أوهام لا يمكن أن تصبح حقيقة في يوم من الأيام، فأميركا عصيّة على التفكك حيث أن ما يسمى «الآباء المؤسسون» أسسوا لأميركا تعيش «إلى الأبد» عبر منظومات قانونية ودستورية صارمة جداً ممنوع على أحد تخطيها.
اليوم تأتي تكساس لتخرق منظومات المؤسسين بصورة خطيرة، ليتقدم أصحاب نظرية الحرب الأهلية، التي باتت أقرب، وعندما تندلع لن تتوقف، إنه قانون ولادة وموت الأمم والإمبراطوريات عبر التاريخ، فهل يمكن لأميركا أن تختلف وتشذ عن قوانين التاريخ وقواعده.. لنتابع ونراقب.
مها سلطان
57 المشاركات