ذهنيّة قتل النواطير
ربما قد لا يكون في الكرمِ عنب ولا تين؛ غير أنّ ثمة خرابٍاً في الذهنيّة، كان يحثّها دائماً ومنذ آلاف السنين، ويدفعها لقتل «الناطور»، والغاية فقط لأجل «الاستباحة»، وهدم سياج الأوطان، واستباحة البلاد لكلِّ غريبٍ، ومغتصب، وحاقدٍ، ولئيم.
بدأ ذلك منذ الزمن القديم، عندما أراد «كليبٌ» – وائلٌ بن ربيعة – أن يُحدد لهم وطناً في مملكة، وسياجاً يحميهم من غدر عدوٍ أو ماكر، غير أن ذهنية الاستباحة، أبّتْ إلا أن تتوحش، وتقدمُ على قتل (الناطور)، وتغتاله بسهمٍ غادرٍ في الظهر، واستبيحت «المملكة» قبل أن تولد، ويتشرد العباد كقرباطٍ في طول غرب العالم ومشرقه.. وفي الزمن الذي تلاهُ؛ لم يتركوا (سيف الدولة) وحيداً يُصارعُ الروم المتربصين بالحدود، بل كانوا دائماً الطعنة الغادرة التي تنالُ الظهر من الخلف، ومن ثمّ كانت الطعنات تنالُ الحارسَ على الحدود على أي جانبٍ كان يميلُ إليه.
وَسِوى الرومِ خَلفَ ظَهرِكَ رومٌ
فَعَلى أَيِّ جانِبَيكَ تَميلُ
قَعَدَ الناسُ كُلُّهُم عَن مَساعيك
وَقامَت بِها القَنا وَالنُصولُ
وفي الزمن الحديث، ومنذ تشكّل الدولة السورية، كانت غايتهم ذاتها، بالعقلية التي توغل في دم «الناطور»، وهدم سياج الوطن، والغاية ليست العنب أبداً، بل استباحة كروم الوطن كلها، وإرضاء غريزة التوحش، والإيغال في أكل لحم الأخ حتى وإن كان ميتاً..
بدأ ذلك بكبد الحمزة بن عبد المطلب أول شهيدٍ في الإسلام، ولن ينتهي عند نزع القلب من صدر الجندي السوري الشهيد، وهو يتصدى للوحوش البشرية القادمة من الشمال.. بدأ ذلك منذ قُطع رأس يوحنا المعمدان عندما قال كلمته – الحق في وجه الطاغية، واستمرت ذهنية التوحش مستمرةً إلى قطع رأس الحسين في كربلاء الذي قال كلمته – الحق أيضاً في وجه الطاغية، وإلى قطع رأس آخر جنديٍّ سوري كان حارساً على ثغور البلاد، ويقول كلمته -الحق في وجه الطاغية الذي أوغل في الدم السوري والعربي، ولم ينجُ منه دمُ إنسان تمكّن من الوصول إليه لأكثر من أربعمئة سنة..
في كلية المدفعية في حلب التي لم، ولن تجفَّ دماءُ شهدائها، أوغلوا في الغدر، وفي التشفي بقتل الناطور، وفي الكلية الحربية في حمص التي لم يتسنَ لهم فرز الضحايا طائفيّاً، عادوا لـ «اللغو» والإيغال في الدماء وقتل النواطير.. والغاية دائماً تغييب الحراس لأجل استباحة الوطن.. إنها ذهنية قتل الناطور، حتى وإن لم يجدوا عنباً، ذهنية قتل الناطور لأجل أن تلعبَ الثعالب فحسب!!
ولأنّ الرد على الغدر والعدوان أزهر من جنوب سورية وشمالها في آنٍ واحد؛ سأختم مع أدونيس من (مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف):
غيرَ أنَّ النّهَرَ المذبوحَ يجري:
كلّ ماءٍ وجه يافا
كل جرحٍ وجه يافا
والملايين التي تصرخُ: يافا
والأحبّاء على الشُّرفة، أو في القيد، أو في القَبْر يافا
والدَّمُ النّازِفُ من خاصرةِ العالم يافا
سمِّني قيساً وسَمِّ الأرض ليلى
باسْم يافا
باسم شعبٍ يرفع الشمس تَحيّهْ
سمِّني قنبلةً أو بندقيّهْ…
هذا أنا: لا، لستُ من عصر الأفولْ
أنا ساعةُ الهتْك العظيم أتت وخلخلةُ العقولْ.