لم يقل العرب عبثاً (اطلب العلم ولو في الصين)، ولم يجد الغرب غير العدوان والحرب والإنكار من سبيل لطمس قوة وحضارة الصين ، وربما يحق لمن يفكر بالعلاقات الدولية والنظام الدولي الجديد، أن يقول (اطلب العدل الدولي من الصين). وإذا بقينا في مجال العلم، فإن هناك حقائق تاريخية تثبت تفوق حضارة الصين إنسانياً، كما أن هناك وقائع تؤكد سطو الغرب على الكثير من إنجازات الصين والرد عليها بعدوانية وهمجية.
في القرن الخامس عشر أمر إمبراطور الصين ببناء أسطول، ليجول العالم، ويعرض على الإنسانية إنجازات الصين في جميع مجالات الحياة.. من أساليب الري والزراعة.. إلى آلات الصناعة ووسائل الحرف.. إلى فنون الطب والعلاج والأدوية ..إلى طرق التعامل مع الفلك والمناخ والإبحار.. إلى أساليب بناء المدن والسدود والطرق، كذلك حمل الأسطول الصيني إلى جانب الآلات والوسائل والأجهزة كتيبات تشرح كل عملية وكتيبات تتضمن الأدب والفنون الصينية، كما شملت حمولة الأسطول كتيبات في السياسة والإدارة، والأهم في الفلسفة… نعم في الفلسفة.
كانت مهمة الأسطول الصيني تعريف العالم على آخر مبتكرات الصين ومساعدة البشر على الاستفادة من اختراعات الصين في تحسين الحياة اليومية، أي إنها كانت مهمة تفاعل حضاري وتعاون إنساني من أجل حياة أفضل. مهمة الأسطول كانت الاحتكاك العلمي, والتقني, والفكري, والأدبي, والفلسفي, مع شعوب الأرض . الاحتكاك معه بما يمكن أن نسميه اليوم (التثاقف) أو نقل الأفكار و زراعتها في مجتمعات أخرى، كما يمكن عدّ العملية توطين الاختراعات والوسائل والأساليب الزراعية والصناعية في البلاد البعيدة.. إنها روح حضارية إنسانية ترى في التفاعل والتعاون مستقبل الإنسان، وتجد في المشاركة تحقيقاً لرسالتها الإنسانية.
هناك أبحاث تقول إن أوروبا استفادت مما حمل الأسطول الصيني في الزراعة والصناعة والبناء والهندسة… إلخ، لكنها أيضاً، وهذا الأهم، أخذت أفكار التنوير من كتيبات الفلسفة التي حملها الأسطول الصيني، وبعض الباحثين يرى أن (فلسفة عصر التنوير) التي تدّعي أوروبا إنتاجها، ما هي إلا نتيجة ما حملته كتيبات الأسطول الصيني الذي أرخت رحلته هذه، وفصّلت في كتاب سمّي بـ(1432) وهو العام الذي أنطلق فيه الأسطول.
بقي معلومة مهمة، أن الإمبراطور الصيني يومها أسند قيادة هذا الأسطول لرجل مسلم، الأمر الذي يكشف مدى استيعاب الصين للإسلام واحترامها لروحه الإنسانية، ومدى تقديرهم للعرب الذين حملوه إليهم وعمق ثقتهم بمسلم لإيصال حضارة وعلوم وإنجازات الصين إلى الإنسانية جمعاء. ويبدو أن إمبراطور الصين قد سمع بما قاله العرب (اطلبوا العلم ولو في الصين) فأراد أن يقصر المسافات على الإنسانية باعتماد مبدأ (يأتيكم علم الصين، وأنتم في بلادكم) لتتفاعلوا معه وتستفيدوا منه ولتفيدوه، ومازال جوهر الصين المتفاعل حضارياً مستمراً إلى الآن.
واليوم، تتفاعل سورية مع الصين، مستكملة رحلة التفاعل التي بدأها الأمويون متابعين التواصل الذي بدأ من الخلافة الإسلامية أيام عثمان بن عفان، ومواصلين التعاون بين العباسيين والصين. والصينيون يعرفون جيداً عمق الحضارة السورية التي علمت العالم زراعة القمح و صناعة الرغيف وبناء البيت، والتي أهدت البشرية الأبجدية والنوتة الموسيقية و أصل القوانين والشرائع.. وهكذا، فإن الصين الحضارية تستقبل اليوم سورية الحضارية التي يؤمن الصينيون بأن السوريين سيتجاوزون واقعهم الحالي المحاصر من الغرب العدواني.
وهكذا، فإن التعاون السوري- الصيني المستند إلى عمق الحضارتين السورية والصينية سينتج عنه ما يعمق أواصر التعاون بينهما في مواجهة العدو الغربي، وما يساعد على بناء مستقبل أكثر سيادةً واستقلالاً ووفرةً.. إنه تعاون حضاري مستمر و متطور ومثمر حتماً.
د. فؤاد شربجي
130 المشاركات