النص الصافي
هل يُمكن الحديث اليوم عن نصٍّ صافٍ، غير مُتأثر بما سبقه، أو بما حوله من نصوص؟!.. بصراحة كثيراً ما خطر هذا السؤال في خيالي، وأنا أقرأ مئات القصائد، والقصص، والملاحم وحتى اللوحة التشكيلية والأعمال النحتية، وفي الكثير من عشرات النصوص المسرحية والحبكات السينمائية والروائية..
بل حتى النصوص الأولى، وأول ما تمّ تدوينه من كتابة، هل أحدٌ ما يستطيع أن يزعم أن تلك النصوص كانت مُنقطعة عما حولها من حكايات وطقوس يومية، بمعنى ألم تكن “تجميعاً” لما كان يتداول بين الناس من كل تلك المثيولوجيا اليومية من عبادات واعتقادات..
عدم توافر النصوص صافية العرق، ربما هو ما دفع الناقد الأمريكي (هارولد بلوم) يوماً ليتحدث وباعتقادٍ حاسم؛ إنه ليس ثمة من نصوص صافية، وإنما يتحدث عن علاقات بين النصوص، بل وجد أيضاً أن علاقات التأثير لا تتوقف عند الكتابة، وإنما تتعداها إلى القراءة أيضاً، بمعنى أنّ الإنسانية تكاد تكون أمام نصٍّ واحد، وكلُّ مرة تجري إعادة تدويره تماماً كما في فنون إعادة التدوير للأغراض القديمة لإنتاج أعمالٍ جديدة منها.. مرةً نعيدُ صياغتها كما كانت، ومرةً تتم الإضافة عليها لتختلف ولو قليلاً عن هيئتها السابقة، وفي مراتٍ قليلة تكون مُختلفة تماماً عن كلِّ سابقاتها، لكنها مبنية بنفس المفردات والعناصر السابقة…
يُشبه الأمر بما يقوم به البناؤون من عماراتٍ مختلفة ومتنوعة وأشكال مُغايرة، لكنها دائماً بالأدوات والمواد ذاتها.. حتى كبار الكتّاب والشعراء والفنانين التشكيليين قلما نجى “نصُّ” أحدهم، أو عمله الفني من استلهامٍ ما.. يكون الباعث في أحيان كثيرة لإنشاء كلِّ تلك العمارة النصيّة.. ومن ثم لا مناص اليوم من الحديث عن تقليدية ما، تحكم مختلف النصوص.. وحتى لا نبقى في إطار النظرية، لنأخذ بعض الملامح التي تُشكل مثل هذه التقليدية، وفي النصوص كلها سردية وبصرية.. على سبيل المثال “رقصة زوربا” في فيلم “زوربا” التي أدّاها الممثل المبهر (أنطوني كوين)، ونتذكر كم تكررت عشرات المرات من فيلم “الرقص مع الذئاب” ل كيفن كوستنر، وحتى رقصة الفنان دريد لحام في فيلم (الحدود).. عازف الناي، أو عازفة الناي على وجه التحديد، كم تكررت في عشرات اللوحات التشكيلية، وإن كان بأساليبَ مختلفة..
ونختم بهذه التراكيب المكررة بين شعراء قدامى ومعاصرين:
تقول أخت الشاعر طرفة في رثائه:
عددنا له ستاً وعشرين حجَةً
فلمّا توفّاها استوى سيداً ضخما
فيما يذكر إلياس فرحات:
قضى الدهرُ من عمري ثلاثين حجّة
طويت بها الأصقاعَ أسعى وأدأبَ
يقول نزار قباني:
عيناكَ وتبغي ودُخاني
والكأسُ العاشرُ أعماني
ويقول عبد النبي التلاوي:
من بعد عاشر كأسٍ بي ندمي
وضجّ خمرٌ وخمارون من ألمي