فؤاد غازي
بين سنة (1955) في قرية«فقرو» في محافظة حماة، وبين (2011) في دمشق؛ لم تكن الحياة كريمةً مع المطرب السوري فؤاد غازي الذي مرت ذكرى وفاته منذ أيام قليلة.. مع ذلك وضمن هذه الفسحة من السنين التي لم تتجاوز الـ(56) سنة، استطاع هذا المبدع المنحدر من الجبال المفعمة بالفقر والعذوبة أن يُشكّل ظاهرة غنائية طوال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين.
وعلى عكس شُحِّ الحياة مع فؤاد غازي، فقد قابلها بيدٍ مفتوحة مع بيادر كرم، وكانت كرومه دائماً كلها على درب.. فعسرُ سنين الحياة قابله بالعطاء، وهو ما عُرف عنه، ويتحدث به كلُّ من عرفه، غير أنّ العطاء الأجمل كان في النتاج الإبداعي الذي قدمه، حتى أمسى تياراً غنائياً حاول الكثيرون السباحةَ فيه.. وهو الذي أعاد التوهج للون الغنائي الجبلي الذي يحتاج دائماً للصوت القوي والمرن ما بين ارتفاعٍ وانخفاض، أو ما بين جوابٍ وقرار حسب لغة الموسيقيين، ليُعطي الموال والعتابا حقهما من التلوين الصوتي، إذ الصوت هنا يُشكّل في حدِّ ذاته «موسيقا» صرفاً، كثيراً ما كان يتجاوز الآلات الموسيقية، أو ربما يستغني عنها، ليصدح صافياً بين أصلٍ وصدى.
(الموال) الذي بتقديري يُشكّل تحدّياً للمطرب، وثمة الكثيرون من النقاد أكدوا على الدوام أنّ: «من لم يستطع أداء الموال، فليس بمطربٍ..» قد يكون مؤدياً، أو مُغنياً وليس أكثر.. موال لا يتجاوز الثلاثة أشطر – من الشعر المحكي، وقد يكون فصيحاً أيضاً – يعتمد على إعجازٍ لغوي في خواتيم.. هذه الأشطر تأخذ (الجناس) لازمتها، أي تكرار الكلمة ثلاث مرات في معنى مختلف في كلِّ مرة، ليُختم الموال بشطرٍ أخير على الأغلب ينتهي بباءٍ ساكنة، وقد يُختم بـ(نا)، وهنا يصير (ميجنا)..
فؤاد غازي الذي ينحدر من جدٍّ زجال من نوعٍ نادر– أسد فقرو – هو الآخر حمل اسم قريته نسباً كما حمله فؤاد قبل أن تعتمده الإذاعة السورية مطرباً محترفاً في كوادرها.. كان أسد فقرو ذات حين محجاً للكثير من الشعراء الجوالين الذين كانوا أشبه ب«تروبادور» عصرهم، ينهلون من مواويله وقراداته ما يُذهل العالم، وبعدها يمدّون (الأوف) الطالعة من الأعماق المشبعة بالليل والليالي، ليعبر الصوت الصادح الجبال ويصل السهول، يحكي بكلماتٍ قليلة لا تتجاوز العشر كلمات رواية قهر، أو حكاية وصف مبدع، أو عنفوان وطن، أو احتفاء بموسم، وربما قصة عشق ساحرة بين الوديان أو عند نبع، أو عين ماء..
وقبل أن يصل فؤاد غازي دمشق، وتعتمده إذاعتها وتلفزيونها، تكون سيرة الرجل قد عرفها كلّ من في السهل والجبل والشطآن في الشريط الساحلي كله متوغلاً في الداخل السوري إلى أبعد من «غاب» حماة، وسهول حمص والعاصي، وحتى لواء اسكندرون، معمراً أفراحها برفقة عازف عود مبتدئ وإيقاع.. وفي دمشق التي سيعتلي المنابر التي لا يملّ يعتليها كبار المطربين في العالم العربي، ومع ذلك سيجد حيزه اللائق في الصف الأول بين هؤلاء بأسلوبٍ متفرد لا يُشبه إلا صاحبه، متخلياً قليلاً عن فلكلور الساحل السوري لمصلحة أغانٍ تخصه وحده مثل: « صبر أيوب، صف الفشك، ما ودعوني، تعب المشوار، جدولاتك مجنونة، بستان ورود، يا أم النظرات الحلوة، ردّي الغرّه، مرجحنا يا بو المراجيح، يا زمان، حليانة كتير، تسلملي العينين السود، يا أمّ النظرات الحلوة، شعرك دهب، لالا ع فراقك، يا معاملنا دوري، شام الورد، زفّوا العساكر.. وغيرها»، متعاوناً مع كبار كتّاب الأغنية والملحنين السوريين، من دون أن ينسى أن يُفعم هذه الأغاني بالمواويل العتيقة التي على الأغلب يبدأ بها الأغنية، أو ينتصفها، وربما يختم بها.. كلُّ ذلك من دون أن تروضه المدن فبقي ابن الطبيعة صافياً، تماماً كنبع ماء لا يملُّ يتدفق من سفح الجبل.