ملف «تشرين».. التعددية القطبية تزداد استقطاباً.. الصين تعزز حضورها الاقتصادي العالمي بتمدد جيوسياسي يدفع أميركا نحو مزيد من التقهقر
تشرين – رشا عيسى:
علامات واضحة على تضاؤل قوة الولايات المتحدة بدرجة كبيرة اقتصادياً وسياسياً، في وقت تسعى فيه دول عدة حول العالم إلى توسيع شراكاتها مع قوى أخرى، وتنويع خياراتها التجارية، وعدم التقيد بالدفع بالدولار الأميركي وحده ما يتيح انخراطاً فاعلاً في الشؤون الاقتصادية المتنوعة وعلى مستويات رفيعة، بينما تنتشر الأنماط التجارية الجديدة والاستخدام المتزايد لبدائل العملات التقليدية الرئيسية للتجارة الدولية «كالعملة الصينية اليوان».
انكفاء واشنطن و زوال دورها لم يَعُد استثناء كأنه ظرف طارئ، بل بات أمراً ملموساً مترافقاً مع التوسع الجغرافي الاقتصادي للصين، وتسجيلها نمواً اقتصادياً هائلاً وتوسعاً جغرافياً في مناطق مختلفة من العالم، المترافق مع تغير في الخيارات الدولية التي بات القطب الواحد عاملاً ضاغطاً على قرارات العديد من الدول، بالتزامن مع ازدياد التوجه نحو التعددية القطبية في العالم والانخراط في عالم متعدد الأقطاب.
مبادرة «الحزام والطريق»
رئيس ومؤسس الأمانة العامة للثوابت الوطنية الدكتور حسام الدين خلاصي يشرح لـ«تشرين» أن الحكاية العلنية لانكفاء الهيمنة الأميركية تبدأ بإعلان مبادرة «الحزام والطريق»، والتي تعتبر أهم بنود وأدوات الوصول إلى عالم متعدد الأقطاب وبزعامات جديدة.
لقد دمجت الصين المبادرة عام ٢٠١٧ في دستور جمهورية الصين الشعبية وذلك لأهميتها وعمق هدفها الاستراتيجي ولإظهار جديتها، وتصف الحكومة الصينية المبادرة بأنها «محاولة لتعزيز الاتصال الإقليمي واحتضان مستقبل أكثر إشراقاً». وحددت تاريخ الانتهاء المستهدف للمشروع في عام 2049، ومن تحديد تاريخ الانتهاء تبدو جدية وقوة وإصرار الصين على السعي لتحقيق أهدافها وبلوغها ذروة الاقتصاد العالمي مع شركاء مختلفين متفاوتي القوة الاقتصادية والعسكرية من دون أي تعدٍ على السيادة الوطنية لهذه الدول الشريكة.
مبادرة «الحزام والطريق» من أهم بنود وأدوات الوصول إلى عالم متعدد الأقطاب وبزعامات جديدة
واعتمدت الولايات المتحدة الأميركية على عاملين في اتساع نفوذها خلال الربع الأخير من القرن الماضي حتى بداية هذا القرن، وهذان العاملان هما السيطرة على سوق الطاقة وأسواق التسليح، فكانت دائماً مُهيمنة بصيغة الاحتلال أو الوصاية بفعل الوكلاء من داخل البلدان.
ولقد بنت الدول المناهضة للسياسة الأميركية قدراتها الاقتصادية وحمتها بتطور عسكري فائق المستوى واستغلت هذه الدول انشغال الولايات الأميركية في التوسع والاحتلال ومارست أقصى درجات الحذر في النمو الاقتصادي والحماية العسكرية لهذا النمو.
من هنا برز التكامل في الأدوار بين الدول الحليفة المعادية لهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم وتم الاتفاق على الامتداد الاقتصادي وكسر هيمنة الدولار والبدء بالتحدث عن البدائل بالعملات الأخرى مثل اليوان الصيني الذي بات يحتل المركز الثالث في احتياطي عملات صندوق النقد الدولي بما يقدر بـ 11%.
وباتت دول آسيا ومنطقة الشرق الأوسط أكثر اقتناعاً بالتفلت من السياسة والهيمنة الأميركية التي لم يصاحبها إلا الخراب والنهب والتقسيم، هذا التبدل كشفته مصداقية الصين وفق الأرقام التي تقدمها والجدوى الاقتصادية التي تحدد مصالح كل الأطراف في المبادرة، وخاصة أن الصين لم تمارس أي عدوان مسلح على أي دولة بعد استقلالها، وباتت تبحث عن أسواق تستوعب انفجار الإنتاج الضخم للمنتجات الصينية، ولكن من دون أي عدوان ومع احترام سيادة الشركاء.
واشنطن اليوم باتت مقتنعة بأن هذا التوسع الصيني ليس عزفاً منفرداً وإنما هو حاصل تفاهم بين الصين وشركاء أقوياء مثل روسيا وإيران والهند والبرازيل وكوريا الديمقراطية ضمن منظومات تجمع مثل «بريكس وشنغهاي».
واشنطن باتت مقتنعة بأن التوسع الصيني ليس عزفاً منفرداً وإنما هو حاصل تفاهم بينها وبين شركاء أقوياء مثل روسيا وإيران والهند والبرازيل وكوريا الديمقراطية
ستوضح السنوات القادمة انكفاء الهيمنة الأميركية أمام هذا العالم الجديد الذي أصر على تشكيل عديد الأقطاب لا بديل عنه إلا إذا قررت واشنطن بجنونها أن تفتعل حرباً عالمية تكون هي طرفاً فيه على مبدأ «عليَّ وعلى أعدائي» ولكنها ستكون فيه الخاسر الأول والأكبر كما يحدد خلاصي.
نقطة انطلاق لكف يد الأميركي
بدورها الباحثة المُهندسة مريم جودت فيوض وجدت أن التوسع الجغرافي الاقتصادي للصين نقطة انطلاق لكف يد الأميركي، موضحة أنه في السنوات الأخيرة شهدت الصين نمواً اقتصادياً هائلاً وتوسعاً جغرافياً في مناطق مختلفة من العالم، وهذا التوسع يعزز نفوذ الصين ويقلل من الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي.
تستثمر الصين في مشاريع بنية تحتية ضخمة في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، مثل مبادرة الحزام والطريق، التي تهدف إلى تعزيز التجارة والتعاون الاقتصادي بين الدول المشاركة، كما تقوم الصين بتوسيع نفوذها العسكري والسياسي في منطقة بحر الصين الجنوبية وغيرها من المناطق الاستراتيجية.
يمكن أن يؤدي هذا التوسع الصيني إلى تحول في التوازن العالمي للقوى وتقليل القدرة الأميركية على فرض سياساتها ومصالحها على الدول الأخرى، ومع ذلك لا يزال من الصعب التنبؤ بمدى تأثير هذا التغيير على المستقبل العالمي والعلاقات بين الصين والولايات المتحدة وفقاً لفيوض.
أما لناحية العملة الصينية اليوان، فقد لفتت فيوض إلى أن تنامي الاقتصاد الصيني وزيادة تأثيره على المستوى العالمي سينعكسان بالقوة على العملة الصينية، ولكن تحولها إلى عملة عالمية أو شبه عالمية لا يمكن التنبؤ بذلك قريباً، لأنه يعتمد على عوامل أخرى إضافية أهمها استقرار السياسات الاقتصادية والسياسية، وهل ستصل هذه السياسات المتبعة إلى تحقيق التكامل المالي مع الاقتصاد العالمي القائم حالياً؟
وأشارت فيوض إلى أن العديد من العوامل دفعت وتدفع دول العالم بشكل عام وتحديداً منطقتنا إلى تعميق التعاون الاقتصادي مع الصين، أهمها رغبة هذه الدول في تحسين أوضاعها الاقتصادية والاستفادة من الصين في تحقيق ذلك عن طريق الاستفادة من التكنولوجيا والبنية التحتية المتقدمة لديها، إضافة للقدرات المالية الضخمة التي عززت إمكانية منح دول المنطقة قروضاً مُيسرة لتعزيز الاستثمار والتنمية، يُضاف إلى كل هذا الرغبة الحقيقية لدى هذه البلدان في الحد من الهيمنة الغربية وتبعاتها غير الجيدة على التنمية في مجتمعاتها.
بنت الدول المناهضة للسياسات الأميركية قدراتها الاقتصادية وحمتها بتطور عسكري فائق المستوى معتمدة مسار الحذر الإستراتيجي والصعود الهادئ المتزن
وأكدت فيوض أنَّ التجربة الصينية بكل تفاصيلها وأبعادها مثال يجب على البلدان الراغبة بتحقيق تنمية مستقلة تعتمد على أسس ذاتية، أن تراجع هذه التجربة وتستفيد منها لأنَّ النتائج التي تم تحقيقها مبهرة وعلى جميع الصعد.
مسار واضح
الباحثة الاقتصادية الدكتورة ريما أحمد أكدت أن الصين اتخذت مساراً واضحاً لتحفيز اقتصادها على المدى الطويل بالاقتران مع سلسلة تفاهمات سياسية عبر القارات الخمس، وجعلت يدها هي العليا في العديد من المناطق في العالم، ما وفر لها حضوراً قوياً جعل منها شريكاً مهماً اقتصادياً وسياسياً.
الحضور القوي للصين المبني على الشراكة والثقة أزاح الولايات المتحدة وأدى إلى انكفائها عن تلك المكانة بأنها أكبر الاقتصادات العالمية، إضافة إلى عدم تخلي بكين عن دورها في الأزمات، بينما عجزت واشنطن بشكل حقيقي عن تقديم حلول للمشكلات الاقتصادية العالمية ما زعزع الثقة بها أكثر.
إضافة إلى أن نوع الاتفاقيات والعلاقات مع واشنطن والجنوح نحو الضغوط والاملاءات خلق تململاً وضيقاً لدى الدول الأخرى خاصة مع تبدل معطيات الاقتصاد العالمي وتعطل سلاسل التوريدات العالمية بفعل انتشار فيروس كورونا وغيرها وباتت هذه الدول منطلقة نحو أفق جديد من الشراكة تحقق لها المساحة الكافية من الحرية بعيداً عن ضغوط واشنطن، كما توضح أحمد.
الشراكة الاقتصاية الواسعة للصين حول العالم ونقاط القوة التي بنتها في اقتصادها الداخلي مكنتاها من نقل رؤيتها الاقتصادية والسياسية للعالم، وهذه الرؤية تمتاز بالاختلاف جذرياً عن الموجود أميركياً، بما فيها إدارة العلاقات الدولية، حيث تعتمد واشنطن على مبدأ العداء والإملاءات بينما العلاقات الدولية التي تشكلها الصين منذ مدة تتصاعد لتشكل تحالفات واتفاقيات تحقق الأمن والاستقرار لأنها لا تقوم على فكرة العداء والاشتراط.
ورأت أحمد أن سياسات واشنطن أدت إلى انكفائها عن الساحة و تراجع دورها لاحقاً لأسباب رئيسة أبرزها:
أولاً- إن العالم اليوم لم يعد يعتمد سياسية القطب الواحد بل الأقطاب المتعددة وهذه السياسة بدأت تحقق النجاح الواسع.
ثانياً – إن التحالفات الاقتصادية والتجمعات مثل «بريكس» و«شنغهاي» حققت هي الأخرى دعماً لتعددية النظام الدولي والذي لا يوجد لسياسات واشنطن مكان فيه. وتعد منظمة شنغهاي أضخم تحالف سياسي بالعالم في حين تضم «بريكس» أهم الاقتصادات العالمية الناشئة ومن المتوقع أن تحقق 35%من الاقتصاد العالمي.
الحضور القوي للصين المبني على الشراكة والثقة أزاح الولايات المتحدة وأدى إلى انكفائها عن مكانتها كأكبر الاقتصادات العالمية
ثالثاً- إن جموح واشنطن العسكري والاحتلالي ودعمها زعزعة الاستقرار في نقاط متعددة في العالم، واعتمادها ازدواجية المعايير ساهمت بتراجعها، بينما تسير القوى الأخرى بخطا ثابتة معتمدة أدوات أكثر استقراراً.
خسارة مزدوجة
الباحثة السياسية الدكتورة مريم مصطفى رأت أن الولايات المتحدة بدأت تخسر جغرافياً واقتصادياً ثم سياسياً لأبرز مناطق نفوذها سواء في أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي وإفريقيا والشرق الأوسط.
وأكدت مصطفى لـ«تشرين» أنه لم تعد دول أميركا اللاتينية الحديقة الخلفية لواشنطن كما كانت تعتقد وتروج، واليوم تميل الكفة باتجاه الصين التي تسجل حضوراً اقتصادياً واضحاً في دول أميركا اللاتينية التي باتت في أغلبها في الضفة الأكثر انتقاداً ورفضاً للإستراتيجية الأميركية التي تفتقر اقتصادياً للشمول التجاري وللاستثمار، وسياسياً تتسم بانفراط عقد الثقة لكثرة التدخلات الأميركية في شؤون الدول اللاتينية التي بات اهتمامها أكبر للخروج من هيمنة واشنطن وتعزيز الشراكة مع الجانب الصيني الذي وجد بدوره في هذه الدول شريكاً تجارياً مهماً وسوقاً مهمة لتصريف منتجاته.
وعلى غرار ما يحدث في أميركا اللاتينية كانت إفريقيا التي يشهد الدور الأميركي فيها تراجعاً نتيجة الصعوبات الاقتصادية وحالة الاستياء العامة لدى الشعوب الإفريقية وحشرهم في صراعات وسياسات لا دخل لهم فيها، إضافة إلى الأمان الذي يوفره الجانب الصيني ثقافياً وفكرياً حيث أنه لا يسعى إلى تغيير الطابع الإفريقي لشعوب القارة أو فرض شروط مسبقة لإقامة الاستثمارات.
جموح واشنطن العسكري والاحتلالي واعتمادها ازدواجية المعايير ساهم في تراجعها بينما تسير الصين وشركاؤها بخطا ثابتة معتمدين أدوات أكثر أمناً واستقراراً
وبدأت شراكات حقيقية تتشكل حيث وجدت شعوب المنطقة الإفريقية في شراكتها مع الجانب الصيني تحقيقاً للمصالح المتبادلة حيث تعد الصين قوة اقتصادية وسياسية، كما أنها تمتلك التكنولوجيا المتطورة ولديها الرغبة في المساهمة ببناء قدرات القارة، فضلاً عن كون القارة الإفريقية تمثل فرصاً استثمارية مهمة في مجال النفط وكذلك تعد سوقاً استهلاكياً كما الدول اللاتينية.
وفي منطقتنا يتنامي الحضور الصيني اقتصادياً وسياسياً، وبدت الصين عراب التفاهمات الأخيرة وخاصة بين إيران والسعودية وبرزت قوة مهمة تبني مواقف سياسية لإيجاد حلول وتسويات للأزمات التي تعصف المنطقة.
وتتجه دول المنطقة أيضاً إلى بناء شراكة استراتيجية تدعم التجارة والاستثمار مع الجانب الصيني الذي يتطور حضوره ليكون الشريك الإستراتيجي الموثوق، إضافة إلى العمل على تطوير التعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والنقل والبنية التحتية والطاقة والتكنولوجيا.
اقرأ أيضاً: