في عالم الأدب تمتزج كل “العلوم” الإنسانية!
لن يستطيع القارئ أن يُفرز في رواية ما، التاريخَ بأحداثه الموسومة بالأرقام الدقيقة كأنه يقرأ مفكرة، ولا الرياضيات مع تعقيدات المفاضلات الحسابية والفرضيات الهندسية، ولا العلوم الطبيعية القائمة على قوانين صارمة، بما فيها علمُ الأحياء والمناخ والفلك والبحار والملاحة والتطور والنشوء، لكن كل هذا سيكون طيَّ الأحداث التي يبنيها الروائي أو القاص أو المسرحيّ ليصنع بدقة، عالماً موازياً للواقع ينقل إليه القارئ على طريقته، ويأخذ مكانه في نفس الوقت بين الروائيين!
ممتع التجوال في الأدب العالمي، خاصة لمن لم يُخلق لدراسة العلوم مجردة من المجازات، لأن كثيراً من تلك العلوم تكون في مزيج “الصناعة” الأدبية، وقد يجد القارئ جواباً مفاجئاً على سؤالٍ غير مطروح بوضوح في خاطره، من مثل: – لماذا تترك قبائل صحارى الثلج، المسنَّ يموت وحده في مُنتَبَذٍ عالٍ من دون نصيرٍ ولا يدٍ رحيمةٍ حانية؟ كنتُ أغضي ببصري عن هذه الميتة وأتجاوزها حين تمرّ بي، خاصة في الروايات اليابانية، وتبرز كلُّ عناصر الثقافة التي تشبعتُ بها عن تقديس “الجَدّ” ورعايته حتى لو صار في “قفّة”! ويكون موتُه كريماً أكثرَ من حياته فتُقام له مراسمُ الدفن والعزاء والوداع الطويل اللائق، وأهجو في ذهني عادات الشعوب الهمجية وأنا أستبعدها كمن يذبُّ عن وجهه حشرات سامة، إلى أن أحكم الكاتب “جاك لندن” مصيدته حولي فوجدت نفسي بلا خلاص مع قصته ” شريعة الحياة”! وفي هذه القصة زعيم قبيلة سابق يُترك لمصيره في مساء مثلج، ولأنه بات كليل البصر سيرى بسمعه ابنه الزعيم وهو يقوّض الخيام ويضعها على الزحافات التي تجرها الكلاب، وحفيدتَه التي كُلّفت بتزويده بكومة حطب تطيل حياته خلال العاصفة الثلجية! لا طعام لأن الصيد لم يتوفّر منذ شهور! لا عباءة تستر لأن جلود الأيائل نفدت إما خياماً أو ملابس للأحياء من أفراد القبيلة! وفي مقتبل الليل يغذي العجوز النار المشتعلة بعودٍ واحدٍ كلما خبت وكل عود هو لحظة حياة عنيدة مستمرة، وحين يسمع وقع أقدام مكتومة على الثلج يهاجمه أمل: -عاد ابني ليأخذني معه! ولم تكن تلك الأقدام إلّا لقطيعٍ من الذئاب جاءت تستعجل عشاءها! طويلاً يتوقف الكاتب مع بطل قصته رغم قصر الوقت الفيزيائي، ويُعمل مبضعه في تاريخ هذه القبائل التي تعيش في ظروف تحمل لها “رفاهية” العيش حين تقتل الأيائل، وشظفَه حين ينعدم الصيد، ولا ينسى سرد وقائع غريزة البقاء حين يحضر إلى ذاكرة العجوز مشهدُ صراع أيّلٍ عجوز استفردت به الذئاب بعيداً عن قطيعه، وفي “مونولوج” مؤلم التفاصيل، بديع الصياغة يتذكر الرجل كيف ترك أباه يواجه نفس المصير منذ سنوات خلت، وقبل أن تنطفئ النار بثوانٍ يستسلم برضا: إنها شريعة الحياة! ولا يتركنا الكاتب في عصف العواطف الإنسانية الجياشة، بل يزودنا بعقيدة تلك القبائل التي علمتها ظروف الحياة أنها يجب أن تبقى والفرد يتخلى عن الحياة من أجل بقائها، وحين يكون الجوع وطريق الهجرة طويلاً لا معنى لاصطحاب عاجزٍ يحتاج إلى عنايةٍ خاصة تؤخر نجاة القبيلة!
من عالم الأدب يفتح “جاك لندن” طريقاً إلى عالمِ الإناسة، ولو كان حادّاً مثل جرحٍ دقيق يفتحه مبضعٌ دقيق!