فسيفساء “عازفات مريمين”.. وثيقة قمة ارتقاء النهضة الموسيقية السوريّة
رنا بغدان:
ذكرها “ياقوت الحموي” في معجمه وبنى زعماء “بني هلال” قصورهم فيها وأصبحت مركزاً لكبار أمرائهم المشهورين مثل “أبو زيد الهلالي” وغيره ومنها انطلقوا في تغريبتهم التاريخية.. إنها قرية “مريمين” التي لم تكن لوحة فسيفسائها أقل شهرة من ينابيعها الدفّاقة وطواحينها وقناتها المائية وأزهارها المتنوعة وأوابدها الأثرية والتاريخية حيث تعتبر هذه اللوحة المكتشفة عام 1960 من أجمل لوحات الفسيفساء النادرة في العالم، ويحتضنها متحف مدينة “حماة” الوطني بأبعادها (4.25 × 5.37)م. وزيّنت الورقة النقدية ذات الفئة خمسمائة ليرة سورية.
وتكمن فرادة وأهمية لوحة فسيفساء “عازفات مريمين” المرسومة بمكعبات حجرية دقيقة أكسبت ملامحها دقة وقوة تعبيرية, بأنها زودت العلماء والباحثين بوثيقة فنية عن كيفية العزف على “الأورغن” في تلك الأيام, فهي تصوّر مشهداً موسيقياً لفرقة موسيقية متكاملة تمثل نساء من العصر اليوناني يعزفن على آلات موسيقية تعود لتلك الفترة. ويقدمن معزوفة على خشبة المسرح ويظهر في هذه اللوحة عازفة الجلاجل إلى اليسار وإلى جانبها عازفة “الأورغن”، وهذه هي اللوحة الأولى في العالم التي تظهر فيها آلة “الأورغن” وفيها 60 أنبوباً معدنياً ربما من الذهب بثلاثة أحجام، وسيدة تعزف على لوحة مفاتيح، وطفلان على هيئة ملاكين يضغطان بأقدامهم على قربة جلدية مملوءة بالهواء لكي تصدح أنغام الأنابيب, والمعروف أن اللوحات التي تظهر فيها آلة “الأورغن” لا يتجاوز عدد الأنابيب فيها عشرين أنبوباً أي عشرين صوتاً فقط.. وهناك سيدة تعزف على الأطباق الموسيقية، وأخرى تعزف على آلة الناي. وفي خلفية اللوحة آلة القيثارة تعزف عليها سيدة، وعلى اليمين سيدة واقفة ربما كانت تغني.
ومن المرجح أنها تعود إلى حقبة الامبراطور فيليب العربي حوالي (244-249 ميلادي)، لأن تسريحات النساء تشبه “الموضة” التي اختطتها زوجة الامبراطور “مارينا سيفيريوس” التي يعتقد على نطاق واسع بأنها من السلالة “السفيرية” الحمصية. كما تدل هذه اللوحة على أنّ “مريمين” كانت قد قطعت شوطاً متقدماً في عالم الموسيقا والعزف، وأنه كانت تقام فيها حفلات موسيقية راقية جداً يحضرها جمهور ذوّاق, وكانت تستخدم فيها آلات موسيقية متطورة من سائر أنحاء العالم القديم بما فيها الآلات اليونانية والهندية، وهذا يدل على أنها كانت تشكل قمة ارتقاء النهضة الموسيقية في سورية مما يدعو للاعتقاد بأن “مريمين” كانت عاصمة سوريا الموسيقية خلال العهد الروماني.. فهي تعبر عن بداية مرحلة جديدة تنتهي فيها مرحلة التقليد والإرث الكلاسيكي الطويل، وتعتبر من النماذج الفسيفسائية ذات الجودة الفائقة التي تعبر عن أصالتها وأصالة المفهوم والمعنى من خلال إتقان وبراعة فنان “مريمين” في تنفيذ كعوبها الحجرية الصغيرة التي أكسبت ملامحها دقة وقوة تعبيرية مع بهاء الألوان وانسجامها وتوازن التركيب فضلاً عن الحياة والحركة التي تشع من أركانها. كما تصوّر إبداعه في التعبير عن مشاهد الصيد في إطار اللوحة عبر رصد حركات الحيوانات الخائفة، وملامح الرعب والهلع المرتسمة على وجوه بعض الآلهة الماثلين فيها. كما تظهر حالة الترف والرفاهية والذوق الرفيع التي وصلت إليها مدينة “مريمين” من خلال المنسوجات الفاخرة والفخمة التي ترتديها العازفات.