هل استنفدت القصيدة الموزونة مقترحاتها الجمالية؟

نضال بشارة:

بين حين وآخر نقرأ تصريحات لشعراء وصحفيين ونقاد مفادها أن القصيدة الموزونة بشقيها (قصيدة البيت وقصيدة التفعيلة) قد استنفدت مقترحاتها الجمالية، مع إننا نقرأ قصائد تنفي مثل هذا التوجه والرأي غير الدقيقين نقدياً.. ” تشرين” توجهت إلى الشاعرين د. ثائر زين الدين والشاعر محمد علي الخضور، لمعرفة رأيهما في تلك التصريحات، وتالياً ما الذي أمام هذه القصيدة من آفاق ما زالت ممكنة؟

سلفية فكرية

المسألة ليست جديدة في رأي الشاعر د. ثائر زين الدين، إذ يقول: ” في بداية الثلث الثاني من القرن الماضي، بدأت طروحات الحداثة الشعرية تنمو نصوصاً شعريّةً وأخرى نقديّة؛ وفي الخمسينيات والستينيات رأى بعض الشعراء والنقاد الرواد أن قصيدة نظام البيت قد استنفدت طاقاتها، وأنها بصورة أو بأخرى تعبر عن سلفيّة فكريّة وربما دينيّة، وهي غير قادرة على مجاراة حداثة العصر، وطرح بعضهم قصيدة التفعيلة بأشكالها وأنماطها، التي كان معظمها في البداية مشدوداً إلى قصيدة نظام البيت معنويّاً وفنيّاً؛ وموسيقياً “. وأشار د. زين الدين إلى أن ” التحرر من نظام الشطرين، لم يترافق غالباً مع تحرر من علائقه المختلفة وبقيت التفعيلة مقيدة غير قادرة على التحرر من وشائجها السلفية الكثيرة، حتى على أيدي من طرحوا ذلك كفايز خضور مثلاً، لكنْ ثمة شعراء مبدعون موهوبون نهضوا بهذه التجربة، وبلغوا فيها ذرا عالية، من دون أن يطرحوا مسألة موت قصيدة نظام البيت التي استمر مبدعوها كـ” أبو ريشة والأخطل الصغير ونزار قباني” بتقديم نماذجهم الباهرة.

مواهب كبيرة

ورأى الشاعر زين الدين أنه ” بعد ذلك بقليل طرح شعراء ونقاد آخرون مفهوم قصيدة النثر، أيضاً بتأثيرات عديدة باتت معروفة للمتابعين، وتمكن عدد غير قليل من تقديم نصوص مهمة في هذا اللون. وبالغ الداعون لهذه القصيدة كما يفعل كثير منهم اليوم بالتقليل من شأن الشكلين السابقين، بل وأعلن بعضهم موتهما، وأنهما استنفدا طاقاتهما التعبيرية والجمالية، وهذا كلام يجانب الحقيقة، ففي الفن وحده لا يستطيع جنس أو شكل أن يلغي الآخر، والدليل أن أصحاب المواهب الكبيرة يفاجئون الجميع بما يقدمون في الأشكال الفنية السابقة، بالتأكيد حين يستطيعون بمواهبهم الخلّاقة أن يخرجوا الكامن في أعماق تلك التجارب القديمة وأن يستلهموها ويستنطقوها ويفجروا طاقاتها التي قد تبدو في مرحلة الذبول”.

خروج على الأنماط

وعن الشق الأخير من السؤال يقول ” إن المتأمل بعمق في تجارب قصيدة التفعيلة التي قدمها بعض أبناء جيل أواخر الثمانينيات حتى الآن- على مختلف الصعد؛ سيرى خروجاً جميلاً على الأنماط التي رسّخها الرواد وما استطاعوا الخروج منها، على صعيد البنية وعلى صعيد الثيمات والموضوعات والأفكار، على صعيد استرفاد الفنون الأخرى وتوظيفها في قصيدة التفعيلة، كالفن التشكيلي والسينما وتقانات السرد، وغير ذلك. فالمسألة ببساطة مسألة موهبة عالية خلّاقة، فقصيدة التفعيلة تعد بالكثير حين ينهض بها شاعر موهوب مثقف عميق التجربة، حياتياً وفنياً”.

الوزن حرية

ويستهل الشاعر محمد علي الخضور إجابته بالقول: “إن فرضنا جدلاً صحة مقولة إن القصيدة الموزونة قد استنفدت مقترحاتها الجمالية، فهل استطاعت قصيدة النثر اقتراح جماليات جديدة في الشعرية العربية؟ لمناقشة ذلك سأستشهد بكلام الشاعر الأميركي “إليوت” حين يقول”: الحرية في الشعر لن تكون أبداً هروباً من الوزن وإنما هي السيطرة عليه وإتقانه “. ومن كلامه نرى أن الحرية التي يعطينا إياها الوزن، هي قدرتنا في السيطرة عليه وتطويعه لأفكارنا ورؤانا التي نريد قولها شعراً، وقد تجلت هذه الحرية في تجارب شعراء قدامى و معاصرين”.

مخزون معرفي

ويتابع الخضور قائلاً ” في الشعر العربي الموزون ستة عشر بحراً يتفرع عنها الكثير من الضروب والإيقاعات أحصاها الشاعر السوري حامد حسن بأكثر من أربعة آلاف ضرب وإيقاع، فأي عذر لمن يدعون إلى تحطيم الوزن الشعري كمحاولة لتخليص الشعر من البنية الموسيقية التي يرونها بنية خارجية لا علاقة لها بالشعر، وهل دعوتهم هذه استجابة لدعوة رواد قصيدة النثر في القطيعة مع التراث واعتبار الوزن جزءاً منه أم هي تغطية عن عجزٍ ما، وفي كلتا الحالتين يكون الوزن مظلوماً مرة باعتباره تراثاً وبنيةً خارجةً عن الشعر ومرة باعتباره مقياساً للشعرية، فليس كل كلام موزون شعراً وليس كل شعر موزون ردّةً إلى الماضي وارتباطاً عقيماً بالتراث. الشعر مادته اللغة، واللغة مخزون معرفيٌّ متراكمٌ في وعي الأجيال المتلاحقة والمتلاقحة للناطقين بلغة ما، يمكن أن نسمي هذا المخزون (اللسان) وهذا (اللسان) لا يمكن فصل تراثه عن حاضره بل فيه يذوب الحاضر بالماضي لتكوين لغة جديدة ورؤى جديدة و مدلولات جديدة ولهذا لا يمكن أن يكون القالب “التراثي” للشعر الخليلي عائقاً أمام تقديم هذه الرؤى المعاصرة.

ويختتم الشاعر الخضور إجابته بالقول: ” إن الشعر خمر تأخذ شكل الإناء الذي يحتويها، في حين يرى البعض كلاماً فارغاً مُراقاً على رمل الأهواء يحسبونه شعراً و ما هو إلّا سرابٌ بقيعة”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار