كِتاب “ضرورة الفن”… لمسةُ الأنا السّحرية لاحتواء العالم!
جواد ديوب
يثير كتاب “ضرورة الفن” لمؤلفه النمساوي إرنست فيشر نقاشاً واسعاً حول ماهية الفن وأصول نشأته، وعلاقة أجناسه المختلفة (رسم، شعر، موسيقى، مسرح …إلخ) بالواقع الذي تحدث فيه، وتأثرها بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحاصلة في مجتمع ما.
يشدّنا الفصل الأول “وظيفة الفن” بعبارة للكاتب المسرحي الفرنسي جان كوكتو يسوقها لنا “فيشر” بذكاء: “الشِّعرُ ضرورة.. وآهٍ لو عرفت لماذا!”، فيعقّب فيشر: “بهذه العبارة الرقيقة عبّر كوكتو عن ضرورة الفن.. وفي نفس الوقت عبّر عن الحيرة إزاء دور الفن في العالم البرجوازي المعاصر”.
نقلتني تلك الجملة التي تحاول أن تتلمس إجابةً شافية عن ماهية الفن الحقيقية، إلى كلمات القديس “أوغسطين” حين قال: “الزمن؟!.. إن لم تسألوني ما هو؛ فأنا أعرف، وإن سألتموني؛ فأنا لا أعرف”!. وكأني بالفنّ والزمن، وكلاها صيرورة أزلية، ولشدّة التصاقهما بالإنسان منذ شهقة الولادة وحتى أنفاسه الأخيرة؛ فإنه لم ولن يتمكّن من القبض على ماهيتهما، أو جوهرهما الحقيقي، بل سيبقيان لغزاً جميلاً يحرّض خيالاته وأفعاله. وحتى لو حاول مفكّر مثل فيشر الإجابة على أسئلة مثل: ما الفنّ؟ وما هي وظيفته؟ سيصطدم، كما يجد هو نفسه، بمحاولات تعريفٍ متشابكة بل ومتناقضة.
يحاول فيشر شرح أو تفكيك رؤية الرسام الهولندي بيتر موندريان “إن الفنّ بديلٌ للحياة، ووسيلةٌ لإيجاد التوازن بين الإنسان والعالم الذي نعيش فيه”، فيقول: “لكن وجود التوازن الدائم بين الإنسان وعالمه أمرٌ مستبعدٌ حتى في أرقى أشكال المجتمع.. لذا ينبغي أن نسأل: هل الفن مجرد بديل للحياة؟ ألا يعبّر عن علاقة أشدّ عمقاً بين الإنسان والعالم؟ وهل من الممكن أصلاً تلخيص وظيفة الفن؟ ألا يُشبِعُ الفنُّ مجموعة واسعة من حاجات الإنسان؟ وحتى لو استطعنا تحديد الوظيفة الأصلية للفن، بدراستنا لنشأته، فهل نستطيع أن نقول إن تلك الوظيفة لم تتغير مع تغير المجتمع. ألم تنشأ للفن وظائف جديدة؟”. ويكمل بقوله: “إن هذا الكتاب هو محاولة للإجابة على هذه الأسئلة.. ولكنه قائمٌ على الاعتقاد بأن الفن كان ولا يزال وسيبقى ضرورة أبداً”.
المتعة المتحققة وأنت تسرح بين الكلمات والأفكار المنسابة أمامك تحيلك إلى قدرة المؤلّف على إثارة خيالاتك بأسئلة تتوالد من بعضها، أسئلة قد تبدو متناقضة، لكنها أشبه بمحاولة إقامة جدَلٍ مع ذهن القارئ، كأننا في محاورة أفلاطونية، أو في مأدبة أدبية يلقي فيها المضيفُ بسؤالٍ مثير لضيوفه، فيحاول هؤلاء الضيوف/القرّاء الإجابة، ثم يردّونها له على هيئة سؤالٍ محرّضٍ جديد.
يكتب فيشر “فلننظر حولنا: ملايين من الناس يقرؤون الكتب، ويستمعون إلى الموسيقى، ويشاهدون المسرح والسينما، لماذا؟، إذا قلنا إنهم يبحثون عن الراحة والمتعة وفراغ البال، لا نكون قد أجبنا، إذاً سنسأل مرة أخرى: لماذا نشعر بالراحة أو المتعة عندما نغرق أنفسنا في حياة غيرنا ومشاكلهم، عندما نبحث عن أنفسنا في لوحة رسام أو قطعة موسيقى أو إحدى شخصيات رواية أو مسرحية أو فيلم؟”.
بالفعل هي أسئلة تثير فينا رغبة البحث في دواخلنا عمّا يجعل من تلك الفنون ضرورة لحياتنا، فإن كنّا، بحسب فيشر “نسعى إلى الفرار من وجودٍ لا يرضينا إلى وجودٍ أغنى، وأننا نريد أن نكتسب خبرة من دون أنْ نتعرّض لمخاطرها”، فهذا لأن الإنسان، يجيبنا المؤلّف “يطمح لأن يكون أكثر من مجرّد كيانه الفردي.. أن يكون أكثر اكتمالاً.. بالخروج من جزئية حياته الفردية إلى كليّةٍ يرجوها (…) إنه يتحدّث عن شيء خارجي وهو مع ذلك جوهريٌّ بالنسبة له، (لذلك) يمدّ هذه الأنا المتطلّعة المتشوِّفة لاحتواءِ العالم، وبذلك يجعل فرديّته اجتماعيةً”!
لكننا قد نتساءل أيضاً: ما الذي يربط بين الرغبة في احتواء العالم واستدماجه في كيان الفرد؛ وبين الفنّ كضرورة؟، يجيبنا فيشر عبر مجمل الكتاب، بأن الفن هو الأداة اللازمة لإتمام هذا الاندماج بين الفرد ومجموع التجارب الحياتية الأخرى، هو قدرة الإنسان على الالتقاء غير المحدود بالآخرين والتمرّس، ليس فقط الفطريّ والمتعويّ، بل العقليّ الذي يتمكّن من خلاله من ترويض الطبيعة بوحشيّتها وتمرّدها وخداعها. لتبقى الفكرة المحورية التي يبني عليها المؤلّف كتابه هي أن الفنّ في جوهره وماهيته، وعبر كل العصور، هو سحرٌ أو وليدُ السِّحر بوصفه أداة للسيطرة على الواقع ومواجهة المجهول فيه للتغلب عليه والتمكّن منه، وأي فنٍّ لم يختزن هذه البقية الأصيلة في مكوّناته لن يكون فنّاً على الإطلاق.
إن الإجابات التي يتخيّرها فيشر تدل على مفكّر مضطلع ليس في اختصاص أو حقلٍ معرفي واحد؛ بل هو متبحّرٌ في فهم الطبيعة السيكولوجية للإنسان أو لحاجاته الوجوديّة التي استقاها، كما نلاحظ على امتداد الكتاب، من دراساته الميثولوجيّة والاجتماعية، واقتباساته الأدبية المتعددة.
وحتى لو بدت بعض الأفكار والمصطلحات التي يطلعنا عليها تنتمي إلى حقبةٍ كان فيها الصراع محتدماً بين الإيديولوجيتين المتناحرتين دوماً، أي بين “الرأسمالية” التي يراها نمطاً إنتاجيّاً تُحوِّل الإنسان وكل شيء إلى سلعة لتوسيع نفوذ طبقةٍ اجتماعيةٍ مهيمنة متوحّشة، و”الاشتراكية” التي يرى في فنّها الواقعي “الواقعية الاشتراكية” أملَ ومستقبلَ الإنسان، إلا أنه من الذكاء بحيث ينتقد ذاك “الفنّ الاشتراكي” لجموده وانغلاقه في كثير من التفاصيل، لذلك نقرأ في ختام الكتاب رؤيته المحمولة على رغبته في أن يُجدّد “الفن الاشتراكي” نفسه (رسماً وشعراً ورواية ومسرحاً..) بالاستفادة، كما يقول، من “فن النحت في مصر القديمة، أو لدى شعوب الأزتك، أو رسوم شرقي آسيا، وحتى من مانيه وسيزان وبيكاسو…فكل تشبّثٍ بمنهج محدد، أيّاً كان هذا المنهج، يتناقض مع مهمة خلق تركيبٍ جديد يستفيد من نتائج آلاف السنين من التطور الإنساني”، بل إنّ الفنّ الاشتراكي سيزداد غنىً وجرأة في موضوعاته وأشكاله.
ثم ينهي فيشر كتابه باقتباسٍ من المسرحي الألماني برتولد بريخت يقول: “إذا كنتَ لا تزال على قيد الحياة فلا تقلْ: أبداً، أبداً.. إنّ ما هو أكيد ليس أكيداً.. فلن تبقى الأشياء على ما هي عليه… وما كان مستحيلاً يصبح واقعاً قبل أن تغربَ الشمسُ اليوم”!
(الكتاب ترجمة أسعد حليم، صادرٌ عن اتحاد الكتاب العرب، اختيار مالك صقور وتقديم نذير جعفر، وكانت طبعته الأولى بترجمة ميشال سليمان عن دار الحقيقة في بيروت 1965).