الوطنية .. و الاستثمار في العروبة  

الدكتور رحيم هادي الشمخي:

منذ نهاية القرن التاسع عشر، مروراً بالقرن العشرين، وليومنا هذا، شكل مفهوم العروبة، أي ميدان الاستثمارات المتنوعة الذي يتم فيه توظيف الخصائص الإثنية الموضوعية في مشروع ثقافي أو سياسي يتطلع إلى المستقبل، القاطرة التي سعى المثقفون والمفكرون والساسة العرب، أو كثير منهم، إلى استغلالها لنقل الأمة العربية من وهدة التأخر التاريخي إلى عناق العصر الحديث، وإعادة تشكيل حياتها حسب القيم والمعايير الحديثة، الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.

لقد سيطرت الأيديولوجية القومية العربية على المنطلقات النظرية، والنهج السياسي لحزب البعث العربي الاشتراكي، باعتبار أن القضية القومية هي القضية المركزية في صراع الأمة العربية من أجل التحرر والتقدم، لذا كانت بقية المسائل الأخرى من بناء الديمقراطية والمجتمع المدني، والصراع الاجتماعي، يتم التعامل معها على أساس أنها فروع من القضية الأم، لا على أساس أن هذه المسائل جميعها تتقدم معاً وتتراجع معاً، ضمن الفهم الجدلي للحركة التاريخية.

وعلى الرغم من وجود الحركات القومية الأيديولوجية الراديكالية في مرحلة الحرب الباردة والتي كانت تطرح في برامجها السياسية المواجهة مع الغرب والأنظمة الرجعية التقليدية، واحتدام الصراعات الوطنية والقومية في مرحلة تصاعد حرارة الأحداث السياسية في المشرق العربي، خصوصاً لجهة الاستقطاب السياسي والاجتماعي بين المعارضة القومية والديمقراطية والإقطاع والبرجوازية الكبيرة في الداخل، والمعسكر الرأسمالي والمعسكر الشرقي على الصعيد الدولي، فإنّ هذه الحركات لم تتوصل إلى تشكيل جبهة قومية تطرح برنامجاً سياسياً يعبر عن برنامج الجماهير الشعبية وقواها الطليعية لإنجاز ثورة ديمقراطية في أي جزء من الوطن العربي، والقضاء على القاعدة المادية للسيطرة الغربية، ومصالح الطبقات الوسيطة الإقطاع والبرجوازية الكومبرادورية، والنضال لإقامة نظام ديمقراطي تعددي، وبناء مجتمع مدني حديث، وتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية، ولهذا السبب، فإن هذه الأحزاب لم تكن تملك مفهوم ثورة ديمقراطية وبناء مجتمع مدني حديث في أيديولوجيتها السياسية، وفي برامجها، ولم تكن تتبنى قيماً وتقاليد ديمقراطية تعددية.

لا يزال الفكر السياسي العربي بجميع تلاوينه لا يميز بين الفكر القومي، والإيديولوجية القومية، والأحزاب والحركات القومية التي تتبنى إيديولوجية قومية، ووصلت إلى السلطة، وتحمل مسؤولية وأزمة الأوضاع الراهنة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية في العالم العربي إلى الفكر القومي العروبي الوحدوي، بل إنّه يذهب إلى أبعد من ذلك حين يعد أن الهزيمة تشمل الأفراد والجماعات، والطبقات، والأحزاب السياسية على اختلاف مرجعياتها الإيديولوجية، والحركة القومية العربية لأنها لم تكن ديموقراطية، حيث يمثل إخفاقها وعجزها عن تحقيق أطروحاتها في الوحدة والنهضة العربية، على الرغم من التأييد الأدبي والسياسي للجماهير الشعبية العربية لها، إخفاقاً تاريخياً عادلاً.

ومع صعود حركات الإسلام السياسي بعد تراجع الحركة القومية العربية، تعمقت أزمة العروبة، وفي ظل مرحلة ما بات يعرف بـ”الربيع العربي” الذي احتلت فيه حركات الإسلام السياسي جزءاً كبيراً من الفضاء الذي كانت تشغله العروبة القومية في عقود مضت، فإنّ هذه الحركات التي تسعى إلى الحلول محل العروبة، من دون آفاق ولا مرتكزات سياسية وثقافية عميقة، لن يكتب لها النجاح، لأنّ أحد أسباب نجاحها هو المال. إن هذا الإسلام السياسي المرتبط بالمال، والمنفصل عن العروبة الذي بات يشكل الذراع للولايات المتحدة الأمريكية، وجه ضربة قوية للعروبة التي نهضت في إطار التحرر من الاستعمار، وكانت ولا تزال لها مضامين مناهضة للهيمنة الغربية والصهيونية.

ولذلك، فإنّ هذا الإسلام السياسي هو ضرب للعروبة، وهو يختلف عن الإسلام المقاوم الذي تؤمن به الشعوب في الوطن العربي ، ويؤدي دوراً مهماً وكبيراً في مواجهة ومحاربة الكيان الصهيوني كلما انخرط الإسلامويون في الكفاح من أجل الاندماج في العصر، أي التفاعل بنجاعة وفعالية معه، وتحقيق السيادة الوطنية والاستقلال السياسي والثقافي والفكري، والانخراط في إدارة الدولة وتسيير

الاقتصاد، سيجدون أنفسهم مضطرين إلى التراجع إلى موقع العروبة وخندقها، وإعادة بناء عقيدتهم أو مرجعيتهم الإسلامية بالترابط معها. فهي وحدها التي تستطيع أن تستوعب عصرنة المجتمعات الإسلامية أو خلال تبنيها العلمانية، من دون أن تخاطر بالانفصال عن الإسلام أو الوقوف في مواجهته.

أكاديمي وكاتب عراقي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار