بعد هيمنة الإنتاج السلعي، وتفشي ثقافة الاستهلاك على نطاق واسع في التجمعات الحضارية، بات من الممكن أن يقول السواد الأعظم من المثقفين التربويين، ورجال العلم، والصحافة الرقمية الخادمة الأولى لانتصار الوهم: إن دور الأدب قد تراجع إلى حده الأقصى، ولم يبقَ مِنْ جوهره سوى رغبة الشيخ في استعادة صباه، وإن كانت تلك الرغبة هي آخر محاولة لمقاومة الموت في القرن الجديد، إلّا أن مدوناتها لن تصب في النهاية إلّا في ساقية اليأس، والعزلة، وفي أحسن الأحوال القيام بفضح المسكوت عنه في أيام القرن المنصرم، لإضفاء صبغة تبريرية لواقع الحال، الذي يرى فيه المثقف المعاصر، قبل إنسان الشرائح الأخرى، بأن ليس هناك من جدوى في استعادة الدور النهضوي الذي لعبه الأدب في العصور السالفة، لا بل إن هذه اللاجدوى، ولتعزيز مكانتها أكثر في تلك الفئات، باتت صندوقاً أسود يطالبهم على الدوام بالأجوبة البائسة، والتي لا ترى في الأعمال الأدبية السابقة واللاحقة سوى رحلات غرائبية، لن تسهم في مجملها إلّا برفد الإنسان بمزيد من الوهم، لكن ولسوء حظ اللاجدوى تلك، فإنها لم تكن قادرة على احتواء طموحات الإنسان بالكامل، وجعلها تحت سيطرتها بالمطلق، فهناك في الجانب اللامرئي من قبل حضارة الاستهلاك، يجلس حلم الإنسان، الطامح ،أبداً، إلى التخلص من أي استلاب يمارس ضده، مهما كانت أدوات تلك الاستلاب مغرية، وهذا ما يجعل هذا الحلم، غير القابل للاحتواء، في صراع دائم مع الوهم، تلك المعادلة بتشعب نتائجها، هي ما رفد الآداب في الماضي، ومازال يرفده برؤى متجددة، وهذا ما جعل منه ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، ولكن عن أي ضرورة نتحدث لضمان تلك الاستمرارية، بمعنى آخر، ما هي الموضوعات المطالب أن يقدمها الأدب لإلحاق الهزيمة بالوهم الذي بات يسيطر على مقدرات الإنسان المعاصر، بما فيها حلمه بالارتقاء الفردي سواء من الناحية العلمية، أو المادية المتاح له في أكثر الأحيان، إذا ما استطاع أن يلعب اللعبة المعاصرة بنجاح، إذاً أين هي المعضلة المطالب الأدب بتناولها في عصر اختلاط الأوراق بين الحلم والوهم اللذين بات الاستهلاك يرعاهما بأموال متوحشة، ومراكز بحثية، وأكاديميات عالمية تصدر التبعية، والتوءمة بين الحلم الوهم على شكل أقراص مهدئة، صنعت من مصطلحات خداعة، لا تحمل بداخلها أي ترياق من الديمقراطية، التي تدّعي حمايتها، لتخليص الإنسان من الاستلاب، وجعله سيداً مطلقاً على قراراته، تلك السيادة الخادعة، التي نتجرعها عبر وسائل الاتصال الحديثة، بقنواتها الإخبارية، والترفيهية، والإعلانية، لتزج بنا داخل لعبة الأرقام، العصية على الفهم، خدمة للشركات المتعددة الجنسيات، التي باتت تحكم العالم، وتخاتل كادرها الوظيفي على اختلاف مراتبه، بإيهامهم بأنهم استطاعوا الدخول في اللعبة بمهارة، سوف يحسدهم الكثير على هذا الاستحقاق الذي حصلوا على كرسيه باجتهادهم، بينما في الواقع، لن يكونوا أكثر من مياومين، يقايضون أحلامهم بأقراص مهدئة من النوع الرخيص جداً، من أجل أن ينتصر الوهم على الجميع، وإذا كان هذا الموضوع بتشعباته يستحق الكثير من الدراسات الجريئة والمسؤولة لفضح قواعد الاستلاب المعاصرة، فإن الحديث عن موضوع الأدب ودوره ذو شجون أكبر، فقد سعت مؤسسات تلك القوة الخفية- التي أرجأت صلاحياتها إلى الشركات المتعددة الجنسيات، وطواقمها العلمية والإدارية، وجمهورها الاستهلاكي البدين – إلى وضع الآداب تحت سلطتها أيضاً، لإبعاده عن دوره التنويري، بمعنى لاكتفاء شره، من خلال محاولة إعادة تأهيله بما يناسبها، وبمتابعة الإصدارات الأدبية المنجزة بأيام الألفية الثالثة للميلاد، سنقف على حقيقة مفادها يقول: إن المنجزات الأدبية، من فئة الدرجة الأولى والثانية، إبداعاً وجوائز، وترويجاً، قد جندت لمعالجة موضوعات تعزز قيمة الاستلاب، وتجعل حلم الانسان في الاستقلال عنه غاية لا تدرك، أما الأعمال الأدبية من الفئة الفنية الثالثة وما دونها، فقد انحصرت مهامها في تمييع الأدب بالعام، وجعله مرتعاً لترويج فشل دائم، غذاؤه الوهم الذي لن يدخل أصحابه، حتى في المناطق المهمشة من تلك اللعبة، ما يجعل من تلك الأعمال بجميع فئاتها وثائق قانونية، يشهرها الناطقون بعدم جدوى الآداب، ليس بوجه من يرى أن للآداب ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، وحسب، بل بوجه كل من تسول له نفسه الخروج عن قواعد اللعبة التي وضعت قوانينها القوة الخفية، وجعلت المجتمع البشري مستهلكاً بارعاً تحت رعايتها!!…
فاتح كلثوم
5 المشاركات