“حُداءات” غسان ونوس وخفقُهُ المترعُ بالخطايا
راوية زاهر:
“حُداءات”.. مجموعةٌ شعرية للأديب المتنوع النتاج الإبداعي غسان ونوس، الصادرة مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب ٢٠٢٢- دمشق.. والتي تأتي استكمالاً لمسيرة من الإبداع والعطاء؛ إذ رفد المكتبة العربية بما يربو على الثلاثين كتاباً في القصة القصيرة والشعر والرواية، والكتابات المتنوعة.
ونوس مهندسٌ مدني برع في هندسة اللغة والخوض في دياجيرها حتى استوى الإبداع على عروشه.. “حُداءات” عنوانٌ مُخاتل استقاه الشاعر لكتابه من عمق المجموعة مُغنيّاً لإبل معانيه حاثاً إيّاها على السير في طرقات الإبداع، وها نحن ندندن خلفه في مفازات المتعة الجمالية للقصيدة، بين ميلادٍ وحنين، سُباتٌ ويقظة، مواويل وسلام وزفرات، وأوجاع على محمل القربان.. كلها عناوين لفصول الكتاب، جابت المدى، وتركتنا نتنقلُ بكلِّ متعةٍ على بيادر القوافي:
“ميلاد
في الخاصرة حشودُ الوخز،
وفي الذاكرة هبوبٌ وثقوب،
والرجع القاني
في المحراب
يُصلي من أجل حفاةٍ
وعراةٍ
وحيارى”
وتحت ميزاب اللغة لشاعرٍ مترف اللفظ، في صباحاتٍ يرتجي هلوسات الحنين، لبست القصيدة ثوب المتعة في عوالمها النورانية العلوية، متصوفٌ كان في عليائها، مبذّرٌ في وظيفتها الجمالية التي لا ترتبط بالمتعة الفردية الحسية الخاصة فقط، بل تتعداها إلى إشاعة الجمال في المحيط الاجتماعي والإنساني. فقد أنسن الطبيعة بما يتناغم وسقف الجمال فاستنطق الماديات وحمّلها أفكاراً ووجوهاً كما في تمثال حجري في تدمر:
“لأيّ العصور الملامحُ
أيّ العهود؟!
وهذي العيون ملامة دهرٍ
وفي شاطئيها عتاب..
لماذا
يحدّقُ في الاتجاه؟!”
وفي وقفةٍ على الحقل الشعوري الذي اعتمدهُ الكاتب، كان يغلب على الكتاب التنوّع والمزاوجة بين الحضور الحسي والنفسي للأشياء والمشاعر والدلالات، وكانت العلاقة بينها ذات عمقٍ وجداني، غلب عليها القلق الوجودي الذي يميلُ إلى الحنين ومطاردة الوجوه بانعكاساتها النفسية الطافية على محيّاها، والاحتضار في خوابي الكهف، أضف لسلامٍ أطلق مع الفجر لوالدٍ يُبكّرُ في الهمّ، ويطلق بزفراته ونهداته على روابي الأنين، وعويلُ أيكٍ يبوحُ بنشيجه الصاخب إلى البراءة المنتهكة.. فقد امتلك الشاعرُ مفاتيح اللغة التي سلمته للتخييل مُحدثاً كل هذا الحضور الباذخ للوصف كما في القربان:
“من يقنع غيماً برماً
أن ينتظم
بلاداً تغشى؟!
من يستهمي الرحمة
من رحم البدء الأقصى..
من يوقف نهر الأنّات
ويوقظ عطراً
في ندف
الشهد المسفوح”
وفي وقفةٍ على الموسيقا استخدم الكاتبُ شعر التفعيلة للمحافظة على وحدة الوزن الموسيقي، وقد نضحت النصوص الشعرية بالحروف الهامسة، فكانت ذات الأصوات الخارجة من النفس بنغماتٍ حارة تعبّرُ عما يعتلجُ الخبايا والضلوع من حنين وزفرات:
“ورعشة الخطر الوشيك،
وسحنة العكر المباغت”
وبرز الطباقُ جلياً في أكثر من موقع، مع اعتماد الشاعر على تنافر بين عناصر الصورة، وما يُحدثه هذا النوع من المحسنات المعنوية بإظهار نقائض الذات في جدلها، مُعبراً عن التوتر النفسي الحاد الذي يعتري المبدع:
“تراهُ ملولاً
من الأزّ والنزّ
واللطم في القرب والبعد
والفقر والغزّ”
فيما جاءت اللغة باذخة غنية، قوية، مستقاة من بحار السلافات والشآبيب العتيقة مع الميزاب والمهماز والوقت الحرون.. تميلُ بكليتها إلى الصور المترفة والجمال والسمو والعلو الباذخ للمعجم اللغوي الشعوري والطبيعي: (غرة السفح، التلال.. ذؤابات الشراع، الموج، الرحلة، الغيم..)، وخروجها إلى دلالاتٍ مفتوحة البوح والرؤى والمخيلة.. كما استخدم الكاتب التناص أيضاً بإرجاع نصه إلى قابيل الآثم:
“قابيلُ وخنجره المسنون،
والجسد المطعون،
وشرذمة الألوان”
وقد انفتح الشاعرُ بقوةٍ على لغة المجاز والاستعارة والتورية ذات الكثافة الشعرية العالية والإيحاء، وحضور مميز للتشبيه وما يتركه من فيض شعورٍ في الأحاسيس وإعمال الخيالات لدى المتلقي:
(في الخاصرة حشود الوخز)، (هو الشارد في فلوات النجوى)، (ما بال اللاهين عن الركب)، (يراقصه الموج الأحمق؟!)، (يأكلني الندم)، (شفاهٌ ترقص)، والكثير الكثير من الصور المذهلة الوقع.. وما بخل علينا الشاعر بالرمز من مثل: (الشجر الواقف في المحراب)، (اعتاد الرقص بلا إيقاع.) رمز للتحدي والصمود، و(سيافُ الندى) كصورةٍ مُذهلة متناقضة الطرفين، بين حسيّ ومعنوي في رمزيةٍ لقتل الحياة.
وفي الختام؛ شهيةٌ كانت اللغة، نديةٌ كانت المعاني، وكان لحضورها وقع النزف المحموم في تمردها، وما أحدثته من غموضٍ في المفهوم، ثائرةٌ على الضبط والإيقاع النفسي للمتلقي.