سيرة جديدة لـ”طه حسين” بقلم “حسام أحمد”
بديع منير صنيج:
“حسام أحمد” الأستاذ المساعد في التاريخ بجامعة ماينوث (جمهوريّة آيرلندا) أصدر مؤخراً بالإنكليزية وعن دار جامعة ستانفورد كتاب “النّهضوي الأخير: طه حسين وبناء المؤسسات في مصر “، ويرى فيه أن التداول المستمر لاسم صاحب ” في الشعر الجاهلي” يغّذي نوعاً من الشّعور المضلل والخادع بأننا نعرف الرجل أو فهمنا دوره البارز في المشهد الثقافي المصري فترة ما بين الحربين العالميتين ولغاية ثورة تموز 1952 التي أطاحت الحكم الملكي هناك، كما أنّ مساهماته وسيرته وتأثيره في السياق الاجتماعي لمصر ما قبل جمال عبد الناصر لا تزال غير واضحة المعالم في الغرب عموماً، ربما باستثناء سيرة مباشرة كتبها بيير كاشيا، ونشرت عام 1956، لذا يحاول الكاتب جَسْر تلك الفجوة عبر قراءة مغايرة لفكر “حسين” واستكشاف مشروعه، من خلال تحليل معمّق لأدواره ما قبل تموز 1952 في المؤسسات الثقافية المصرية التي قادها في النصف الأوّل من القرن العشرين (جامعة القاهرة، ومعهد اللغة العربية، ووزارة الثقافة)، والصيغ التي اعتمدها في تلك المؤسسات لوضع أفكاره موضع التنفيذ.
يقول الكاتب “أحمد”: هذا الكتاب بمنزلة سيرة اجتماعيّة لمصر خلال فترة تاريخيّة ثريّة بالتحولات والتحديات الحضاريّة يتراجع فيها الفردي والخاص لمصلحة المجموع والعام، وتضع طه حسين الجدلي دائماً في قلب ما أعتبره لحظة ليبراليّة مثيرة عاشتها أكبر دولة عربيّة قبل انتقالها تالياً إلى مسار مختلف تماماً سياسياً واجتماعيّاً وثقافيّاً، ولاسيما أن المثقف المصري لم يكن أحد محركات تغيير الأوضاع القائمة حينئذ فحسب، لكنّه كان قادراً على طرح بدائل محددة ومحاولة تطبيقها على أرض الواقع في ظل ظروف ظلّت بشكل عام غير مواتية، وهذا ما جعل استعادة طه حسين اليوم ملحّة، وذات صلة أكثر من أي وقت مضى في أعقاب التحولات التي عاشتها مصر منذ كانون الثاني 2011، خاصةً أنّه يقدّم أنموذجاً مُلهماً للتّعاطي مع العديد من الأسئلة المصيريّة التي مازالت مطروحة، وربّما لم يُجب عنها حتى اللّحظة: كقضيّة التعامل مع الثقافة الغربيّة مع الاحتفاظ بمسافة من مضمونها الإمبرياليّ، والعلاقة بين التراث والحداثة، وموقع الدين والمرأة والتعليم في المجتمعات المعاصرة، ودور المثقّف في الإطار الكلي للسياسة وغيرها”.
كان طه حسين بالفعل رجلاً استثنائيّاً بكل مقياس، فبعد أن فقد بصره في سن مبكرة، كرّس نفسه للمعرفة ودراسة الأدب، درس بداية في جامعة الأزهر الإسلامية بالقاهرة، ثم التحق بالجامعة المصريّة (سميت لاحقاً جامعة القاهرة) حين افتتحت عام 1908 وحصل على الدكتوراه منها عام 1914 على أطروحة عنونها بـ”ذكرى أبي العلاء”، ثم ابتُعث إلى فرنسا، حيث حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس بأطروحة عن “الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون”. ولما عاد إلى بلاده عمل أستاذاً للتاريخ ثم أستاذاً للغة العربية ثم عُيّن عميداً لكلية الآداب بجامعة القاهرة، فمديراً لجامعة الإسكندريّة قبل أن يُنصّب وزيراً للمعارف. وطوال عقدي العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي كان طه حسين إلى جانب نجاحه المهني نشيطاً فكريّاً أيضاً، إذ أحدث ثورة في مجال كتابة المذكرات باللغة العربية من خلال ثلاثية سيرته الذاتية “الأيام – 1926″، وكمترجم، أنجز أول نسخ عربية للعديد من المآسي اليونانية الكلاسيكية، فضلاً عن نقله أعمالاً فكريّة حديثة لكتاب فرنسيين مثل أندريه جيد وجان بول سارتر، وكباحث، أنتج أعمالاً مرجعيّة عن بعض عظماء الأدب العربي الكلاسيكي، وكمفكّر، صاغ طروحات جدليّة بشأن تاريخيّة ما يسمى بالشعر الجاهلي ” في الشعر الجاهلي- 1926″، وعن “مستقبل الثقافة في مصر – 1938”.
يركز الكتاب على رؤيته لطه حسين كتجسيد للحياة الفكرية في العصر الليبرالي لمصر، وهي فترة من الديمقراطية البرلمانية المضطربة بين استقلال البلاد الشكلي عام 1922 حتى ثورة الضباط الأحرار عام 1952 والتي كانت فترة محفوفة بالمخاطر والتقلبات على المستوى العالميّ، لكنها مصرياً كانت وقتاً ثريّاً سياسياً وثقافياً بشكل خاص، فكأنّه امتداد طبيعي لفترة إرهاصات ما سُمي النهضة العربيّة، التي ساءلت كثيراً من الافتراضات المتوارثة والقيم التقليدية، وطرحت مسائل مستجدة مثل الاشتراكية والنسوية والعلمانية للجدل العام.
يقول الكاتب: “طه حسين، اتفقتَ معه أم لم تتفق، كان ملهماً حين امتلك دون غيره من المثقفين جرأة العمل الميداني في مواجهة الأسئلة المركزيّة المطروحة على الثقافة المصريّة حينئذ، وهو أمر يبدو أن لا مثيل له اليوم، في وقت تراجع فيه دور المثقّف المصري، والعربي عموماً، إلى مكانة الكومبارس وتنفيذ التوجيهات.
أنهت ثورة الضباط الأحرار في تموز 1952 تلك اللحظة الليبرالية في تاريخ مصر وشتتت أركانها، و كان سقوط طه حسين متوقعاً ومحتماً، وبالفعل صعدت بدلاً منه إلى واجهة العمل الثقافي فئة جديدة من المثقفين الذين رأوا وجهات نظره الليبرالية حول الثقافة العالمية مغرقةً في السذاجة والرومانسيّة، ورأوا في تعلقه بالثقافة العالية نخبوية متكبرة لا تليق بعصر الجماهير والطروحات الاشتراكيّة التي شرع النظام الجديد باستكشافها”.
ومع ذلك لا يزال اسم طه حسين حاضراً بقوة، وتحولت أعماله المنشورة مع مرور الوقت إلى كلاسيكيّات لا غنى عنها لكل باحث في قضايا الأدب العربي ومسائل الثقافة في القرن العشرين، ولاسيّما كتابه الأشهر «في الشعر الجاهلي – 1926»، الذي أثار معارك فكريّة طاحنة، وما زال موضع جدالٍ وأخذٍ وردٍّ إلى اليوم.