أوائل تسعينيات القرن الماضي كنت أواظب على زيارة “كشك” لبيع الصحف بجوار جامعة دمشق وليس بعيداً عن وكالة سانا للأنباء، لشراء جريدة “أخبار الأدب” المصرية التي لطالما أبقتني في سحر الروايات والقصص المتراكمة في مكتبتي لعمالقة الأدب العربي، ففيها النقد والإصدارات الجديدة ونفحات من أقلام شابة، تعرفت بها في جريدة كبيرة الورق وهشّ الصناعة لكن رئيس تحريرها هو الروائي الفذّ جمال الغيطاني! وكنت قد قاربتُ بعض قصصه فوجدت في أسلوبه غرابةً وعمقاً ورموزاً لا يستطيع القارئ أن يتجاوز فيها سطراً واحداً أو جملة من دون التنبُّه إلى عمقها و وظيفتها في النص، والتقاطِ الأنفاس قبل المضيّ بالقراءة، حتى عرفت فيما بعد أن هذا الروائي عمل في مطلع حياته في معمل لنسج السجّاد، وهو ينسج قصصه ورواياته بالأسلوب نفسه! ومن لم يجرّب الضنى الحقيقي في نسل الخيوط والصباغة والتعامل مع ” اللُّحمة والسُّدى” سيقول تبسيطاً إنها صناعة صعبة ودقيقة، وكفى!
لا أتذكر متى توقفت هذه الجريدة عن الوصول إلى دمشق بعد أن تضاعف سعرها أربع مرات واشتريت منها عددين بعد غلائها، لكن الحظَّ وافاني مرة أخرى بلقاء هذا الكاتب الكبير عبر برنامج تلفزيوني كانت إحدى المحطات تبثّه بانتظام وبمواعيد ثابتة، تسير الكاميرا فيه بجوار “الغيطاني” وهو يتجول في العمارة الفاطمية يروي تاريخها بتلقائية وفهم وعشق وحب يقارب الحنان! إنها روح مختلفة عن كل ما عرفته برامجُ التلفزيون! كان حديثه عن المساجد والمآذن والخانات والأزقة والقصور أشبهَ بالكتابة السلسة المشوِّقة التي يستمتع بها قارئ شغوف بالماضي والحاضر! وكنتُ أحب هيئةَ ذلك الجوّال بملابسه البسيطة وحقيبته الصغيرة وسُمرة بشرته الصعيدية ونبرة صوته وسحر مفرداته، وأتابعه باهتمام، ليس كما يُتابَع مرشدٌ سياحيّ حفظ المعلومات ويكرّرها ليشرد سامعُه فيما بعد وهو ينظر إلى الحجارة، بل كما يفعلُ حكيمٌ ينقل حكمتَه إلى إنسان ضائع في متاهات الوجود! كان “الغيطاني” بإجماع النقاد من خبراء العمارة بالمعنى الصوفي والفلسفي وقال إننا نعيش بينها كأقرب المقربين لذلك وجب اعتبارها من ذوات الأرواح، وفيها قال أيضاً إنها أقرب الفنون إلى الرواية!
عدتُ مرة أخرى إلى هذا الكاتب، ربما لأنه عصيٌّ على الغياب في الفضاء الثقافي. كنت أبحث عن بعض محطات حياته لأرفقها بقصته البديعة “خراب الجسور” التي سأعدُّها سيناريو إذاعياً، وبجواري مجموعته التي نشرها اتحاد الكتاب العرب في دمشق عام 1975 بعنوان “الحصار من ثلاث جهات” مزينة بغلاف للفنان التشكيلي السوري محمود السيد، ومررتُ على عشرات المواقع، سعيدةً بأنه الاسم الأكثر بحثاً على محركات “غوغل” ولكن فوجئت أن كل المواقع ذكرت تاريخ طباعة هذه المجموعة عام 1981 في بيروت، ولم يأتِ المؤرخ أو الباحث على ذكر الطبعة الأولى التي كانت قبل ست سنوات، وعنه سيتم النسخ بعدد لا يُحصى، وعليه سيعتمد طلاب الدراسات العليا، في معلوماتهم “الموثوقة” ! -هي مسألة نافلة لا قيمة لها؟؟ كلا، وكلا للزجر! إنها خفةٌ لا تحترم قداسة الثقافة ولا تقيم وزناً للزمالة، وجحودٌ يشبه جحود بعض مؤرخي حرب تشرين حين يتعمدون طمس بطولات الجبهة الشمالية بحصارٍ خفيّ، ليس من ثلاث جهات فحسب بل من كل الجهات التي يُفترض أنها حمّالة نسيم عربي نقي لا يوقفه عائق!
نهلة سوسو
123 المشاركات