.محيط «هادئ» صاخب الصين بمواجهة أميركا.. «داوها بالتي كانت هي الداء»!
مها سلطان
برغم أن عملية الالتفاف الصينية في المحيط الهادئ لم تنتقل بعد إلى محطتها الثانية (ما زالت في جزر سليمان).. إلّا أن واشنطن تكاد لا تهدأ، ولا ترى أي مجال لـ«أخذ نَفَسٍ واحد» قبل أن تزيح الصين إلى أبعد مسافة ممكنة عن المنطقة, فعلياً باتت الصين في كل مكان وفي كل مجال, هذا ما يقوله الأميركيون؛ قد يحتاج الأمر مواجهةً عسكرية, هذا ما قاله رئيسهم جو بايدن قبل أيام… فيما كانت أستراليا على الجانب الآخر تساند قول بايدن وتضيف: إن الاستعداد للحرب هو الطريقة الوحيدة للحفاظ على السلام في المنطقة, والمقصود من خلف «السلام» هو إبعاد الصين بالحرب إذا ما اقتضى الأمر.. لكن الحرب ليست في متناول اليد، واشنطن وكانبيرا تعرفان ذلك جيداً، ولو أن الحرب في متناول اليد لما ترددت الولايات المتحدة في شنها أو افتعال أسبابها.
الأسوأ بالنسبة للولايات المتحدة هو يقينها أن الصين ستنتقل سريعاً إلى المحطة الثانية، فهناك الكثير من العوامل التي تخدمها، وإذا كانت عملية الالتفاف الصينية توقفت قليلاً عند «فيجي» فها هي «كيريباتي» ترسل للصين رسائل القبول والرضا وتعدها «صديقاً حقيقياً وموثوقاً» وليس عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة.. بمعنى؛ إن كيريباتي مستعدة لتوقيع الاتفاقية الأمنية نفسها التي وقعتها جزر سليمان مع الصين في نيسان الماضي «ومن المعروف أن كل من جزر سليمان وكيريباتي استأنفتا علاقاتهما الدبلوماسية مع الصين منذ عام 2019 وقطعتا العلاقات مع تايوان».
* * ***
الآن.. كيف حدث أن تمكنت الصين من البدء بتنفيذ عملية التفاف في المحيط الهادئ وأمام عيني واشنطن ولدرجة بدا معها أن هذه الأخيرة أُخِذت على حين غرة ؟, (علماً أن الولايات المتحدة تكاد لا تشيح بعينها عن الصين وتصفها بأنها أكبر اختبار جيوسياسي في هذا القرن.. لكن ما حدث هو أنها اعتمدت اللعب بالحجارة الكبيرة، فاتجهت الصين نحو الحجارة الصغيرة. الولايات المتحدة عملت على تعزيز تحالفاتها مع الدول الكبيرة الوازنة في المنطقة كاليابان وكوريا والهند وغيرها، فيما وجدت الصين في الجزر الصغيرة ضالتها، وهذه الجزر فعلياً هي الأكثر أهمية وحيوية فهي بمنزلة المفاصل الصغيرة التي تربط القطع الكبيرة.. ولا ننسى أن الولايات المتحدة خسرت حلفاءها المهمين بالمنطقة في عهد رئيسها السابق دونالد ترامب، وهي تجاهد اليوم لاستعادة ما انقطع .
*** الحكاية من أولها
حتى نفهم أكثر لنعد إلى عام 2017 عندما انسحب ترامب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ بعد عامين فقط من توقيعها (كما فعل مع العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الإقليمية والدولية) وفق مبدأ «أميركا أولاً» الذي رفعه قولاً وعملاً طوال فترة رئاسته (2016-2020) تاركاً حلفاء بلاده في حالة صدمة، متخبطين في كل مجال، من السياسة إلى الاقتصاد مروراً بقضايا الأمن والنفوذ والتنافس… الخ.
لم يلتفت ترامب لتحذيرات الشركاء بل وسّع مبدأ «أميركا أولاً» مُضاعفاً انكفاء الولايات المتحدة اقتصادياً (وسياسياً) وفق قاعدة أن الجميع (أي الحلفاء) يستغلها، ويحقق المرابح والمكاسب والنفوذ على حسابها ملحقاً بها أضراراً كبيرة، وتالياً على الجميع أن يدفع مقابل الحصول على «صداقة» أميركا.
حينها عدّ كبار الاقتصاديين حول العالم أن مبدأ ترامب هو بداية الأفول التدريجي للعولمة ذات الصبغة الأميركية والغربية لمصلحة بداية نمط آخر من العولمة ذات صبغة صينية, تقدمت الصين في كل المناطق والتكتلات والأقاليم والمناطق الاقتصادية الأهم حول العالم، ومنها منطقة المحيط الهادئ, تقدمت دبلوماسياً ثم اقتصادياً (وحتى ثقافياً) وتحول هذا التقدم إلى «عمل اقتحامي» على خلفية الاتفاقيات الأمنية التي تسعى الصين لتوقيعها اليوم مع جزر المنطقة.
وفق الانسحاب الترامبي آنف الذكر بدأت الخريطة التجارية العالمية تتغير لمصلحة الصين، إذ إن «اتفاق الشراكة عبر الهادئ» كان يُمثل حجر الزاوية فيما يسمى «المحور الآسيوي» الذي تسعى إليه الولايات المتحدة لتقوية قيادتها في منطقة آسيا – المحيط الهادئ، وتحويل الثقل الأميركي من الأطلسي إلى حوض الهادئ، والهدف الأساسي هنا هو مواجهة القوة الصينية الصاعدة عبر تركيز المصالح الاقتصادية في منطقة تعد سوقاً متنامياً بشكل متواصل ومتسارع.
«عولمة صينية»
الآن..إذا اعتمدنا تسمية العولمة الصينية، يمكن القول: إنها قطعت شوطاً مهماً حتى وصلت إلى المحيط الهادئ مع وصول بايدن إلى رئاسة الولايات المتحدة، ولأن هذه المنطقة تعد المجال الحيوي الأهم واللصيق بالأراضي الأميركية، أعلن بايدن أن التركيز الأميركي يجب أن يكون عليها، قبل أي منقطة أخرى، معلناً بدء مواجهة جديدة مع الصين. ..
هكذا وقبل نهاية العام الأول من رئاسته وقع بايدن في أيلول الماضي (2021) اتفاقاً أمنياً دفاعياً تكنولوجياً مع كل من استراليا وبريطانيا تحت مسمى «تحالف أوكوس» الذي وصف بأنه خطوة الولايات المتحدة الأولى في عهد بايدن نحو إعادة ترتيب هيكل القوة في منطقة المحيط الهادئ، وكان من نافل القول: إن الهدف هو الصين التي ردت بدعوة الدول الثلاث لـ «التخلص من عقلية الحرب الباردة والتحيز الأيديولوجي».
وكان من الطبيعي أن يأتي رد الصين سريعاً وموجعاً، إذ سبق أن مهدت له ولغيره في الأيام المقبلة».
في 19 نيسان الماضي أعلنت الصين توقيع اتفاق أمني مع جزر سليمان، حيث لم تنفع كل الضغوط والتهديدات الأميركية والاسترالية في ثني جزر سليمان عن توقيع هذا الاتفاق الذي أشيع حوله الكثير، خصوصاً لناحية تمكينه الصين من إقامة قاعدة عسكرية في هذه الجزر المتاخمة لأستراليا (لتكون الأولى في منطقة المحيط الهادئ), ليُجن جنون أميركا وحلفائها الذين مازالوا يهددون ويتوعدون الصين بالطرد العاجل من المنطقة.
في الـ20 من أيار الماضي ومع استعداد الصين لإرسال وفد إلى عدد من جزر الهادئ، توج بايدن أسبوعين من التحركات النشطة في المنطقة (على خلفية احتواء تداعيات اتفاق الصين وجزر سليمان ومنع اتفاقات مماثلة).. توج بايدن هذين الأسبوعين بجولة آسيوية شملت اليابان وكوريا الجنوبية، فقط !.. حاملاً بيده ملفين أساسين: التواجد الصيني في الهادئ.. وتسريع وتيرة التقارب بين أستراليا وكوريا الجنوبية، الحليفين الرئيسين في المنطقة، واللذين لم يتجاوزا بعد علاقة مريرة وغير ودية تعود جذورها إلى حقبة الاستعمار الياباني لكوريا الجنوبية, وفي الهدف الأعم توجيه رسالة إلى الحلفاء بأن حرب أوكرانيا لن تشغل الولايات المتحدة عن المنطقة، وأنها ما زالت في صلب سياساتها الخارجية والدفاعية.
*** شراكة جديدة
في 23 من الشهر نفسه، أعلن بايدن من طوكيو- وإلى جانبه رئيس وزرائها الجديد فوميو كيشيدا- إطلاق شراكة اقتصادية جديدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ تضم 13 دولة، ليست الصين من بينها، ولا جزيرة تايوان تلافياً لغضب الصين.. هذه الشراكة هي منصة مفتوحة لانضمام مزيد من الأعضاء وقد تكون مفتوحة لتايوان أيضاً في مرحلة لاحقة من المواجهة مع الصين.. فيما انضمت إلى هذا الشراكة جزيرة فيجي لتكون الدولة الـ 14.. والأولى على مستوى جزر الهادئ، وقد اعتبر هذا الانضمام رسالة سلبية إلى الصين بأن تقوية دورها ونفوذها في المنطقة لن تكون بالمهمة السهلة.
حسب بيان الاتفاقية فإن الشراكة الجديدة ستساعد دولها بشكل جماعي على «إعداد اقتصاداتها للمستقبل» بعد تداعيات وباء كورونا وحرب أوكرانيا، وحسب بايدن فإن هذه الشراكة «ستكتب القواعد الجديدة لاقتصاد القرن الـ21» قائلاً: سنساعد اقتصادات جميع بلداننا على النمو بشكل أسرع وأكثر عدلًا، سنفعل ذلك من خلال مواجهة بعض التحديات الأكثر حدة التي تعرقل النمو».
بايدن اختتم جولته في اليوم التالي بقمة لتحالف «كواد» الذي يجمع الولايات المتحدة واليابان والهند واستراليا (وقبل أسبوعين من ذلك عقد بايدن قمة جمعته مع قادة رابطة دول جنوب شرق أسيا (آسيان).
*** جولة أولى
بالتزامن مع كل ما سبق كانت الولايات المتحدة تطلق بشكل شبه يومي رسائل تحذير لجزر الهادئ من التقارب مع الصين (وتوقيع اتفاقات غامضة معها) .. ومن المقرر أن تستمر جولة الوفد الصيني برئاسة وزير الخارجية حتى السبت المقبل.. بعد ذلك يمكن الحديث عن نجاح أو فشل هذا الوفد.. وتالياً تقييم مستوى النتائج في أولى جولات السباق الأميركي – الصيني في منطقة آسيا- المحيط الهادئ.
الصّين في «المحيط الهادئ».. فرصة للتآزر التنموي في المنطقة
ترجمة وتحرير: راشيل الذيب
أثار الاتفاق الأمني الأخير بين الصين وجزر سليمان مخاوف لدى أميركا وحلفائها في المنطقة، وطرح العديد من التساؤلات حول تزايد النفوذ الصيني في جنوب المحيط الهادئ، وماهية المخاطر التي يشكّلها على واشنطن وحلفائها، فهل حقاً اتفاق بكين مع جزر سليمان علامة أخرى على تنامي قوة الصين في منطقتي المحيطين الهادئ والهندي؟.
في هذا السياق أكد موقع «كاونسل أون فورين ريليشن» أن الاتفاق يعكس شراكة بكين طويلة الأمد مع منطقة جنوب المحيط الهادئ، والتي بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتجلت من خلال المنتديات الإقليمية، مثل منتدى جزر المحيط الهادئ (PIF)..ومنتدى التعاون والتنمية الاقتصادية بين الصين ودول جزر المحيط الهادئ (EDCF) إذ تقدم الحكومة الصينية ما يقرب من مليون دولار سنوياً لأمانة EDCF.. كما أنشأت الصين صندوقاً بقيمة 1.9 مليون دولار لدعم مواجهة المنطقة لفيروس «كورونا» عام 2020، وعقدت بكين ودول جزر المحيط الهادئ في العام الماضي الاجتماع الافتتاحي لوزراء الخارجية وتعهدت بتعزيز التعاون في مجالات تشمل الحد من الفقر وتغير المناخ، كما يتجلى الوجود المتزايد للصين أيضاً من خلال مساعداتها الكبيرة، إذ كانت بكين خلال العقد الماضي ثاني أكبر دولة مانحة في المحيط الهادئ، بعد أستراليا.
وعلى مستوى المصالح، أشار المقال إلى أن الصين تنظر إلى منطقة جزر المحيط الهادئ على أنها عنصر مهم في مبادرة «الحزام والطريق» إذ تعد هذه المنطقة على وجه التحديد مركزاً مهماً للشحن الجوي في إطار «طريق الحرير الجوي» الذي يربط آسيا بأمريكا الوسطى والجنوبية، وقد وقعت الصين وثائق تعاون ضمن تلك المبادرة مع دول جزر المحيط الهادئ العشر التي أقامت معها علاقات دبلوماسية في العام الماضي.
ولفت المقال إلى أن الاستثمار المباشر للصين في المنطقة ارتفع من 900 مليون دولار عام 2013 إلى 4.5 مليارات دولار عام 2018، بزيادة قدرها 400% كما استثمرت الشركات الصينية أكثر من ملياري دولار في التعدين في المحيط الهادئ خلال العقدين الماضيين، إضافة إلى ذلك أعربت الصين عن اهتمامها القوي بمصائد الأسماك وتربية الأحياء المائية وبناء الموانئ وغيرها من المجالات ذات الصلة، كذلك زاد إجمالي التجارة في المنتجات السمكية بين الصين وجزر المحيط الهادئ من 35 مليون دولار إلى 112 مليون دولار ما بين أعوام 2010 إلى 2020، وبحلول نهاية هذه الفترة استثمرت 11 شركة صينية في صناعة مصائد الأسماك عبر ستة بلدان من جزر المحيط الهادئ.
وعلى المستوى السياسي، المنطقة كانت مركزاً لنزاع دبلوماسي حول تايوان على مدى عقود، فأربع دول فقط من جزر المحيط الهادئ لها علاقات دبلوماسية مع تايوان، وهي: جزر مارشال.. ناورو.. بالاو.. وتوفالو، بينما كانت جزر سليمان وكيريباتي هي الأحدث التي حولت علاقاتها من تايبيه إلى بكين في عام 2019, وفي حالة جزر سليمان، فقد وقعت بكين معها اتفاقيات في إطار مبادرة «الحزام والطريق» لتصبح بموجبها وجهة للسياح الصينيين في مؤشر قوي على الاتجاه نحو تقوية العلاقات مع بكين وعلامة على نفوذ الصين المتزايد في المحيط الهادئ، ووعدت بكين أيضاً بتقديم مساعدات مالية بنحو 730 مليون دولار في خطوة أزعجت الكثيرين في المنطقة.
الاتفاق الأمني بين الصين وجزر سليمان قد يكون مدفوعاً برغبة الصين في حماية مصالحها الخارجية، وسط الاضطرابات المدنية التي تستهدف المشاريع التي تمولها الصين في دول أخرى من جهة، والعلاقات الصينية المتدهورة مع أميركا وحلفائها في المنطقة من جهة ثانية.
وبالنظر إلى موقع جزر سليمان الاستراتيجي، لا شك أن الولايات المتحدة وحلفاءها الإقليميين، مثل: أستراليا ونيوزيلندا، يشعرون بالقلق من أن هذا الاتفاق يسمح للسفن البحرية الصينية بإعادة التحميل هناك، ويمكن أن يفتح ذلك الباب أمام إنشاء قاعدة بحرية صينية، والتي من شأنها أن توسع بشكل كبير من نفوذ الصين العسكري في جنوب المحيط الهادئ.
وتابع المقال: يُنظر إلى جنوب المحيط الهادئ على أنه جزء من «بحيرة أمريكية» حسب تعبير دوايت أيزنهاور الرئيس الأميركي في عام 1954، ويمكن تتبع المصالح التجارية والأمنية للولايات المتحدة في المنطقة منذ عام 1825، وللولايات المتحدة اليوم وجود عسكري قوي في المنطقة من خلال القيادة الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ، وتحت إدارة جو بايدن أعطى البنتاغون الأولوية لبناء قواعد عسكرية أمريكية في غوام وأستراليا.
عينُ أمريكا على الصين
عبد المنعم علي عيسى
منذ مطلع الألفية الراهنة، باتت الصين واقعةً في دائرة الضوء الأمريكي ، والفعل كان نتاجاً طبيعياً لما راحت تراكمه أرقام الصعود الصيني الذي بدا الأخير من خلالها كما السيل الجارف القادر على كنس كل ما يقف أمامه .
اعترفت الولايات المتحدة بجمهورية الصين الشعبية كممثل وحيد للشعب الصيني في العام 1971 بعد أن كانت ” تايوان ” تحظى بذلك التمثيل في المحافل الدولية، وعلى رأسها الجمعية العامة للأمم المتحدة ، والفعل جاء من حيث النتيجة في سياق التجاذبات التي فرضتها الحرب الباردة المندلعة ، منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، ما بين القطبين الأمريكي و السوفييتي ، وفي حينها رفعت بكين شعار ” شعب واحد ونظامان ” الذي عبر عن استراتيجية مفادها القول بإمكانية التعايش ما بين نظامين، أحدهما اشتراكي والآخر رأسمالي، خصوصاً إذا كانت عوامل التاريخ والجغرافيا والثقافة واللغة كلها تصبّ في سياقات ذلك التعايش ، فلا ضير عندها من أن يظل جزء من ذلك النسيج خارج نهج الحكومة المركزية التي راحت تحاول مدّ أواصرها نحوه ، كان الشعار تعبيراً عن نهج صيني يقوم بالدرجة الأولى على محاولة احتواء الإقليم الذي شق ” عصا الطاعة ” بدعم وإسناد أمريكي على نحوٍ خاص وغربي على نحوٍ عام .
بالعودة إلى مطالع الألفية الراهنة التي حملت معها قراراً أمريكياً يقضي بوضع الصين تحت دائرة الضوء ، يمكن القول إن واشنطن بنت استراتيجيتها لمواجهة النهوض الصيني لتكون عبر عنوانين عريضين أولهما ” ورقة تايوان ” وثانيهما ضرب طوق حول الصين في بحر الصين الجنوبي وصولاً إلى شرق آسيا عبر التأسيس لتحالفات من نوع ” أوكوس ” الذي ضم بريطانيا وأستراليا إلى جانب الولايات المتحدة شهر أيلول الماضي .
بدت ” ورقة تايوان ” بوضعية اعتبارية تفوق المحور الثاني لاعتبارات عدة أبرزها أنها من النوع الذي يمسّ السيادة والهيبة الصينيين ، ناهيك بأنها ” آنية ” و هي في المتناول القريب، الأمر الذي لا يحققه ذلك المحور الذي يحتاج ترتيبات طويلة المدى، وكذلك لعمليات إنضاج تحتاج هي الأخرى وقتاً ليس بالقصير ، خصوصاً أن بكين كانت قد أطلقت مؤخراً مبادرة كبرى تهدف إلى توسيع التعاون في المجال الأمني والتبادل التجاري الحرّ مع دول المحيط الهادئ، الأمر الذي يعني أن فرص ” ضرب الطوق ” بالنجاح ستكون ضئيلة في عالم يتجه أكثر فأكثر نحو ترجيح كفة المصالح على أي شيء آخر سواها .
مع اندلاع الأزمة الأوكرانية أواخر شهر شباط المنصرم كانت الرؤية الأمريكية تقول بوجوب تحريك ” ورقة تايوان ” لاعتبارات عدة، لعل أبرزها أن فعلاً من هذا النوع كفيل بإضعاف قدرة الصين على دعم الحليف الروسي ، أو أقله إبقاؤه تحت سقوف منخفضة ، ومنها أيضاً أن النظرة الأمريكية ظلت عند أن ” الصين هي دولة لديها نية لإعادة تشكيل النظام الدولي ، كما لديها وعلى نحوٍ متزايد القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك ” كما قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في خطاب له أمام جامعة جورج واشنطن 26 أيار الماضي ، ومع اتساع رقعة الحرب الأوكرانية التي بدت مؤخراً أشبه بحربٍ يشنها الغرب ضد روسيا عبر الوكلاء ، راحت النغمة الأمريكية تعلو في تصعيدها بدرجات غير مسبوقة على نحو ما فعله الرئيس الأمريكي 28 أيار عندما قال إن واشنطن ” سوف تتدخل عسكرياً إذا ما قامت بكين بمهاجمة تايوان ” .
لا تنفك واشنطن تعلن عن دعمها لـ ” صين واحدة ” لكنها في المقابل تعمل على تعزيز قدرات تايوان العسكرية ، وتزيد من تبادلاتها التجارية معها ، بل تسعى نحو استفزاز بكين عبر الزيارات التي يقوم بها أعضاء في الكونغرس للجزيرة ، ومن جهة أخرى، تعلن ، أي واشنطن ، أنها سوف تتدخل عسكرياً إذا ما هاجمت بكين هذه الأخيرة ، وهذا يشير إلى ضبابية طاغية ربما كانت مقصودةً ، وهي تتيح لها ترك كل الخيارات مفتوحة ومن الصعب تخمين أي منها سيكون راجحاً إذا ما انفلت عيار النار التي تزكيها واشنطن وتريد لها أن تستعر، كما يبدو .