مسرحية سورية تتنبأ بـ”انتحار الحضارة” عام “3021”

بديع صنيج

عندما دعيت لحضور عرض بعنوان “3021” في المعهد العالي للفنون المسرحية، خطر ببالي مباشرةً السؤال عن الألف عام المستقبلية التي تفصلنا عن تاريخ أحداث العرض، وما الذي سيقدمه لنا المخرج “سامر عمران” من خلال نصه الذي اجترحه بطريقة غير تقليدية، وطريقة العرض الذي سنكون فيه كجمهور جزءاً أساسياً منه. تمت دعوتنا لدخول المسرح الدائري لنقف بجانب بعضنا في مواجهة الممثلين جميعاً الذين بدؤوا مونولوجاتهم المكثَّفة والممتلئة بالقلق والخوف ونكران الآخر، والعزوف عن المنطق، ورفض الجَمال، وتثوير الفراغ وزعزعة اليقين بمغزى الوجود كلياً، لنكتشف أن كل ذلك ما هو إلا مفاتيح أولية لبوابات من الأسئلة لم يكن أقلُّها ما جاء على لسان إحدى الشخصيات: “ما الفرق بين جلجامش وهاملت؟ هتلر أو هولاكو؟ ترامب، روزفلت أو خروتشوف؟ ما الفرق بيني وبين أي شخص الآن؟ بعد مئة عام؟ قبل مئة عام؟ بعد مئتي عام أو ألف عام؟ كيف بنيت الحضارة والتي لم يبقَ من عبقريتها سوى أثرها؟ أهرامات مصر، المسارح الرومانية، سور الصين العظيم، ما الذي سيبقى من حضارتنا كأثر في المستقبل؟ ملاعبنا العملاقة، الأبراج الرائعة، الجسور الهائلة؟ نحن نبني الحضارة ونحن ندمرها”.
ولم تلبث تلك الأسئلة وغيرها تتصاعد في رؤوسنا، حتى قرع الدكتور “سامر” صنجاً بيده، مُعلناً تصعيداً جديداً في عمله، وضعنا مباشرةً ضمن مشاهد تمثيلية مقتبسة من رواية “العمى” لجوزيه ساراماغو، والتي تحكي عن وباء معدٍ يحصد معه إمكانية الرؤية، ما أعادنا بمقاربة مع زمننا الحاضر إلى مناخات الهلع والفوضى التي أصابت العالم من فيروس كورونا، وكيف انشلّت حركة البشر، وأصبحوا متيقنين من أن خريطة كل شيء ستتغير بعد ذاك الوباء، ولن يبق شيء على حاله، سواء أكانت الخريطة أمنية أم جينية أم سياسية أم ثقافية، فالحرب الفيروسية لم تعد فقط إحدى نتاجات الخيال العلمي والأدبي، وإنما نتاج مختبرات وأبحاث الهدف منها دبّ الذعر في النفوس، وخلخلة اليقين بثبات أي منطق مسيطر، بما في ذلك منطق “التأريخ الوجودي” الذي تحدث عنه “كولن ولسن” في كتابه “سقوط الحضارة”، والذي أكّد فيه أن ما تحظى به البشرية من تقدُّم هو مجرد كذبة، “فكما أن كل جيل من البشر لا يقل حمقاً عن الجيل الذي يسبقه، فإن الأمر كذلك بالنسبة للحضارات”، مبيناً أن “حضارتنا، وكل ثقافاتنا وعلومنا متجهة نحو تمكيننا من ممارسة أقل حد ممكن من إرادتنا”، وهذا ما اشتغل عليه عرض “3021” عندما عمَّت الفوضى بسبب العمى وبات البشر بلا أدنى إرادة، وإنما مجرد مساجين في أماكن الحجر الصحي، يعتريهم الخوف والجوع وامتهان إنسانيتهم من قبل مديري تلك الجائحة، بما في ذلك الأمن الذي تخلى عن دوره لبعض العصابات التي احتكرت الدواء والطعام، أو لنقل الحياة برُمَّتها، فانتشرت الجرائم والتشنيع بالمرضى، وصارت مقايضة الحياة باغتصاب النساء، وغير ذلك من فجور أخلاقي، في إشارة أتقن الممثلون إيصالها لما أراده “سراماغو” من روايته، بأن العمى ليس له علاقة فقط بالبصر، وإنما هو نوع من العمى الفكري والأخلاقي الذي يترسخ أوقات الشدة، وتتعزز فيه مقولة أن “الأخلاق والمبادئ الإنسانية هشة أمام العوز البشري”، وزاد من زخم الأحداث في العرض، السينوغرافيا التي وضعنا فيها د.”سامر عمران” ضمن أحد مستودعات المعهد العالي للفنون المسرحية، بما فيه من أعمدة معدنية ضخمة، وسلالم، وبوابات حديدية، لنعيش مع الطلاب روح فرضية العمى مسرحياً، بما فيها من شعور بالعدمية والاختناق والضيق والعبثية والاقتتال والانتحار وتحطيم أي نافذة للأمل بما فيها التي جاءت عبر أغنية من الراديو، بحيث يمكننا القول بأننا عايشنا واندغمنا كمتفرجين مع أزمة وجود حقيقية، لم يخفت وهجها حتى أعلن المشرف على العرض بضربه للصنج نهاية فصل، ثم فتح الطلاب بوابة لنا تفضي إلى حديقة المعهد حيث سنتابع فصلاً جديداً من العرض.
لم تنتهِ هنا سيرورة العمى في “3021”، إذ سندرك بعد قليل أن الأحداث انتقلت إلى مقاربة درامية جديدة، ولكنها هذه المرة لـ”بلد العميان” للكاتب البريطاني “هربرت جورج ويلز”، حيث الإبصار تهمة، ودليل انحطاط في النوع البشري، والحق هزيل أمام الباطل، والعقل لا يفيد في زمن الجنون، وكل القيم هشّة ما دام المجتمع يرفضها على عماه، لدرجة أن المُبصِر الوحيد في ذاك البلد الأسطوري وُضِع ضمن مفاضلة بين حُبِّه لفتاة عمياء وبين بصره، ولأن العينين ووظائفهما ملعونتان ومرذولتان، فإنه في عرض التخرج قام مجتمع العميان بتجريم المُحب الغريب وفقء عينيه باعتبارهما خيانة لتقاليدهم وللظلام السائد في قلوبهم وبصيرتهم، إذ لم يدع الدكتور “سامر عمران” في توليفته الدرامية ذاك البصير يهرب كما في رواية “ويلز”، بل جعله ضحية الجهل والعتم، اللذين كرَّسهما مسرحياً عبر احتفالية للتسوق احتلت ممرات حديقة المعهد العالي للفنون المسرحية، وبرز من خلالها ملامح انهيار الحضارة والعودة إلى مجتمع بدائي يؤمن بالسحر والخرافات وتبجيل الملك، ويحتفي بالعمى لتكريس وجوده، وكأننا في هذا الفصل أمام رؤية مسرحية تجسد ما اجتمع عليه الكثير من الباحثين والمفكرين من أن أهم أسباب سقوط الحضارات هو انهيار منظومة القيم فيها، ولاسيما الأخلاقية، بمعنى أن العوامل الداخلية هي الأكثر تأثيراً في ذلك السقوط، وهو ما أوجزه عالم التاريخ البريطاني “أرنولد توينبي” بعبارة بليغة قال فيها: “إن الحضارات لا تموت قتلاً؛ وإنما انتحاراً”، وخاصةً عندما ترفض أو تعجز عن الاستجابة للتحديات التي تواجهها، فالحضارة عندما تعمى وتغفل أو تتغافل عما يحيق بها، وعندما تتجاهل نواقيس الخطر التي تتهددها، فإنها لا بد آيلة للسقوط والاندثار، وهذا ما حصل في عرض “3021” مع مجتمع العميان، فبعد احتفاءاتهم بجهلهم وغض البصر والبصيرة عن الحقائق، اجتمعوا على خشبة المسرح من جديد ليكتشفوا أن العمى ليس الداء الوحيد الذي سيصيبهم، إذ بدؤوا واحداً تلو الآخر بفقدان حاسة السمع، ولتزعزع ثقتهم بالسكينة التي كانت تغلف حياتهم، ولتفور أجسادهم أكثر وأكثر عندما يُصابون بالخَرَس جميعاً، هنا ينتهي العرض بفرضية مبدعة للدكتور سامر عمران، تجعل أفراد المجتمع الغارق في غيّه يفقدون الكلام، كأهم وسيلة للتواصل فيما بينهم، وليغرق عالمهم بالصمت الخالد، ويُسدَل الستار بعدما انقطع الحوار تماماً، فهل هذا ما سيحدث لنا بعد ألف عام كما تنبّأ العرض؟ وهل دخلت حضارتنا في مرحلة اللا عودة ضمن سيرورة التدمير الذاتي التي تحدَّث عنها “إزوالدو شبنغلر” في كتابه “انهيار الحضارة الغربية”؟ ثم أما من وسيلة لتجنب ذاك الأفول الحضاري وإيقاف المسيرة العبثية للبشرية رغم تقدمها الصناعي والتكنولوجي الهائل؟ أعتقد مع “شبنغلر” أن هناك دائماً محاولات فكرية واعية للتعبير عن فداحة الكارثة ووصف الحياة التي أصبحت كابوساً، وليس عرض “3021” إلا أحدها.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار