لا تقل كل شيء!
كتاب الأسرار الصغير الذي غالباً ما يتم إخفاؤه عن أعين المتطفلين طوال سنوات إلى أن يحين وقت التقاعد، وفجأة يقوم صاحب اليوميات بحمل كتابه السحري الى المطبعة ليكشف الكثير من الأسرار والأحداث وما خفي كان أعظم !
البعض يصف هذا الكرّاس الساحر الذي نكتب فيه منذ أيام مراهقتنا أو في شيخوختنا بالطبيب النفسي الرائع الذي يطل على عوالم مغلقة ويفتح النافذة ليسمح لبعض الأحداث التي طالما تم دفنها بحرص في تلافيف الذاكرة بالظهور من جديد عبر أجناس أدبية رفيعة أطلق عليها اليوميات أو كتب السيرة. ويزخر أدبنا العربي بكتابات كانت الأنا حاضرة فيها بشكل واضح، وقد عمد بعض مشاهير الأدب إلى قص النوادر والطرائف والتجارب التي عاشوها حقيقة أو تلك التي تتصل مباشرة بمحيطهم الاجتماعي والثقافي، ويعد الجاحظ (المتوفى سنة 868) من رواد هذا النوع من المغامرة الإبداعية، فقد ضمّن كتاباته المتنوعة بعضاً من فصول حياته، وبفضل روحه المرحة ودهائه وأخلاقه وحسّه الفكاهي تمكّن هذا العبقري من تأسيس أسطورته الشخصية، حيث تتناغم روحه الإبداعية مع عظمة الحدث الحضاري، ومن بين الذين برعوا في هذا اللون من الأدب نجد العبقري المعروف أبا حيان التوحيدي ( المتوفى سنة 1023)، ويعد كتابه “الصداقة والصديق” أنموذجاً رائعاً لكتابات السيرة الذاتية، حيث يعبر فيه عن نظرة سوداوية وعن روح تشاؤمية عانت الأمرّين، نتيجة خيانة الأصدقاء وفساد الذمم وانهيار القيم. ومثال آخر نجده مجسداً في كتاب “طوق الحمامة” لابن الحزم الأندلسي ( المتوفى سنة 1062)، وقد ترجم الكتاب إلى مختلف اللغات الأوروبية وأثّر أيما تأثير في الشعر الأوروبي وخاصة في شعر التروبادور، وقد مزج الأديب في هذا الكتاب بين الشعر والنثر، بين التجارب الشخصية والقضايا الاجتماعية، ويعبّر في هذا النص عن روح التسامح والتفتح التي كانت سائدة في الأندلس. وقد عرف تاريخ الأدب العالمي نفساً جديداً مع صاحب “المقدمة” عبد الرحمن بن خلدون (المتوفى سنة 1405)، فقد عاش هذا العالم فترة تاريخية زاخرة بالأحداث الكبرى والتحويلات المهمة التي زلزلت الإمبراطورية الإسلامية، واستطاع هذا المفكر العبقري أن يتمثل هذا الزخم الحضاري الجارف ليعبّر عن هذا الصدام العنيف بين الحضارات والإمبراطوريات، فهو شاهد عيان على عنف التاريخ وعلى أفول نجم الحضارة الإسلامية التي كانت تعيش رمقها الأخير، ويعد كتابه “التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً” من أهم كتابات السيرة الذاتية عند العرب.
وتزخر كتب الرحلات بكثير من أدب “اليوميات” المستمدة من تجارب السفر واكتشاف عادات وتقاليد الشعوب والبلدان المزارة، ويكفي أن نتصفح بعض الكتب لـ«ابن بطوطة والإدريسي والمسعودي وابن جبير وابن فضلان وحسن الوزاني وليون الإفريقي وياقوت الحموي» لنكتشف هذا التداخل والالتحاق بين مكونات السيرة الذاتية وجنس اليوميات والمذكرات.
واللافت اليوم أن ما ينشر من أدب المذكرات أو السير الشخصية هو مجرد اقتطاع لحظات أو مواقف غالبها منمق يطغى عليه الجانب الإيجابي الذي يسجل الإعجاب لصاحب اليوميات كأن المجتمع يفرض ذلك التلميع للشخصيات بحيث تنتقي الكلام وتخفي بين السطور ما لا تريد أن تقوله.