ما زالت البوصلة باتجاه دمشق.. وعليه لا يمكن لخبر ترؤس سورية منظمة الدول العربية المصدرة للنفط «أوابك» أن يمر كخبر عادي، بل كحدث بارز له ما قبله وما بعده، رغم محاولات البعض التقليل من شأنه باعتباره إجراء تقنياً اعتيادياً وفق المسار العام لتداول رئاسة المنظمة، حيث إن سورية ما زالت تحتفظ بعضويتها فيها، وبالتالي يحق لها أن تترأس أو تستضيف الاجتماعات والمؤتمرات التابعة لها، مثل مؤتمر الطاقة العربي الذي ستستضيفه في عام 2024.
لو كانت الأوضاع في سورية وعلى الساحة العربية، ومجمل المنطقة، أوضاعاً عادية، كان يمكن لهذا الخبر أن يكون عادياً أو اعتيادياً (كما يقول ذلك البعض).. لكن الجميع -ومن ضمنه ذلك البعض- يدرك تماماً أن ما يجري أبعد بكثير من مسألة ترؤس منظمة أوابك، وأن القادم أوسع وأكثر تأثيراً باتجاه استعادة سورية كل ما سُلب منها سواء بالحرب الإرهابية أو بالعقوبات الاقتصادية.. ليكون ما يقوله ذلك البعض محاولات غبية للتشويش، لا طائل منها، ومدعاة للسخرية، لا تستحق «الأجرة» المدفوعة لهم.. وهي تذكرنا بمحاولاتهم نفسها في أيلول الماضي حيال «خط الغاز العربي» والتوجه إلى سورية بطلب رسمي لإعادة تفعيل هذا الخط.
ورغم مرور أسبوع على القرار، إلا أنه لا يزال محل اهتمام واسع.. اهتمام انتقل من مستوى المدلولات والمؤشرات والمنعكسات، المرابح والمكاسب والمصالح، والموقف العربي/الدولي (الأميركي).. إلى مستوى التوقعات والتنبؤات والحسابات، وما الخطوة التالية في مسار التوجه إلى دمشق، أو كما يسميه المراقبون والمحللون مسار الانفتاح والعودة إلى سورية.
على نطاق واسع، تم اعتبار التوجه إلى دمشق لتفعيل خط الغاز العربي، على أنه «البداية الرسمية» للعودة السياسية إلى سورية من بوابة الاقتصاد/ الطاقة.
وإذا كان الحال كذلك فإن القرار العربي الذي اتخذ بالإجماع لترؤس سورية مجلس وزراء منظمة أوابك (في اجتماع لها -عبر الفيديو- على مستوى وزراء الطاقة والنفط مؤخراً).. يمكن اعتباره المحطة الثانية «الأوسع والأكثر رسمية» باتجاه سورية، حيث تضم أوابك في عضويتها عشر دول عربية (إضافة إلى سورية) هي الكويت، السعودية، ليبيا، الجزائر، قطر، الإمارات، البحرين، العراق، مصر، وتونس.. وجميعها كانت حاضرة وأعطت موافقتها على قرار ترؤس سورية لمنظمة أوابك -خلفاً للسعودية- وذلك ابتداءً من كانون الثاني المقبل 2022 حتى الشهر نفسه من عام 2023.
بين «خط الغاز العربي» و«وقرار ترؤس أوابك» هناك «مياه كثيرة جرت تحت الجسر» غيرت الوقائع والمعطيات، ومهدت الطريق أمام توسيع مسار التوجه نحو دمشق، وعليه فإن هذين الحدثين لن يكونا وحيدين، وهناك من يتحدث عن سلة مشروعات للتعاون العربي- السوري.. الإقليمي– السوري.. الدولي- السوري، معظمها في مجالات الطاقة، بعضها سيُعلن عنه خلال العام المقبل الذي لا يفصلنا عنه سوى أيام.
رئاسة أوابك.. شكلاً ومضموناً
هنا لا بد أن يبرز سؤال: هل هي عودة اقتصادية فقط ، بمعنى هل يمكن تجريدها من السياسة.. أيضاً بمعنى: هل يمكن أن تكون هناك عودة اقتصادية من دون بيئة سياسية مرحبة ومشجعة (وتالياً بيئة آمنة مستقرة) تضمن الفوز والنجاح في تحقيق الأهداف الموضوعة؟
أولاً.. لا انفصال بين الاقتصاد والسياسة. يكاد هذا أن يكون من المسلمات. يرتبطان في النجاح وفي الفشل.. وفي القواميس والمصطلحات يأتي تعريف السياسة بأنها «اقتصاد مكثف» لكن هذا لا يعني أنه يتقدم عليها، أو هي تتقدم عليه، وإنما العلاقة تكامل، وحتى إجبار في بعض الحالات، أي إن كلاهما مجبر على الانصياع للاحتياجات والشروط التي يفرضها كل منهما على الآخر، لهذا نجد أن معظم الدول خصوصاً الكبرى لديها الكثير من الحسابات الاقتصادية في العلاقات السياسية التي تجمعها، بل هي كثيراً ما تحسبها اقتصادياً في سبيل الاستمرار في علاقات سياسية جيدة، والعكس بالعكس.
ثانياً.. من هنا يأتي الحديث عن تلك العودة بأنها عودة لن تكتمل إلا بالسياسة، بل إن السياسة هي هدفها، بمعنى أنها عودة اقتصادية هدفها رسم خرائط سياسية جديدة في المنطقة، حيث تشكل سورية الموقع الجيو سياسي البارز فيها، وهذا يعني أنه لا يمكن تجاوزها أو تحييدها.
هدف الحرب الإرهابية على سورية منذ عام 2011 ومن ثم العقوبات (وما يسمى قانون قيصر) كان محاولة إضعاف سورية والضغط عليها للنيل من قرارها المستقل وتدمير أساسيات القوة الاقتصادية فيها، بما في ذلك الأمن والاستقرار، وصولاً إلى أن يكون باستطاعة من شنوا بهذه الحرب ومولوها ومدوها بأسباب الدوام والاستمرار أن يتجاوزوا سورية أو يحيدوها، ليفرضوا على المنطقة الخرائط السياسية التي يريدونها والتي يريدون من خلالها إعادة رسم خرائط القوة الاقتصادية، خصوصاً الطاقة، النفط والغاز، من خلال التحكم بالمنابع والمعابر.
الحرب الإرهابية على سورية فشلت في تحقيق هذا الهدف، فكان لا بد العودة أو الاستدارة، لا فرق، لكنها عودة لا تخلو من دوافع مشكوك فيها، حيث كانت عودة اقتصادية أرادت اللعب على وتر الآثار السلبية التي خلفتها الحرب على الوضع الاقتصادي، أي على افتراض أن سورية لا بد أن ترحب وتقبل للتخفيف من وطأة آثار الحرب.
سورية رحبت بالعودة، وهي لن تفعل سوى ذلك، ولكن ليس من موقع ضعف، بل باعتبارها عودة عربية، وسورية لطالما رفعت التضامن والتعاون العربي شعاراً.. والأهم أن الجميع يسميها عودة عربية إلى سورية، ولا يسميها ذهاب سورية إلى العرب.
ولأنها كذلك فإن سورية ليست في موقع ضعف، ومع ذلك سورية لا تتعامل مع هذه العودة إلا من منطلق استعادة روح الأمة الكامنة في تعاونها وتضامنها.
ثالثاً.. ليس خافياً أن قرار ترؤس سورية لمنظمة أوابك سينعكس إيجابياً على الوضع الاقتصادي، هذا عدا عن تعزيز مكانتها وقرارها. ولا ننسى هنا أن سورية تتعرض لسرقة موصوفة مستمرة لثرواتها الطبيعية من النفط والغاز بفعل الاحتلالين الأميركي والتركي لمناطق في الشمال والشرق، ولا بد أن يكون لذلك القرار تأثير على الأرض من خلال دعم منظمة أوابك لحق سورية في استعادة ثرواتها، أو على الأقل الدفع بهذا الاتجاه.. وحتى لو ذهبنا مع بعض الآراء التي تقول إن سورية لن تحقق أي منافع اقتصادية، فإنه يكفي الحالة المعنوية التي يساهم هذا القرار في تعزيزها، والثقة بأن القادم لا بد وأن يكون أفضل، وأن سورية تدير معركتها الاقتصادية بنجاح وثقة كما تدير معارك السياسة والميدان، وتحقق فيها نجاحات وانتصارات لا ينكرها أحد.
الدولي والأميركي
رابعاً.. أين الولايات المتحدة؟
سؤال يتصدر في كل مرة، بل هو سؤال ملازم ولصيق حول موقفها من كل التحركات باتجاه سورية، وحول ما إذا كان هناك سياسة أميركية جديدة، غير مًعلنة، تغطي هذه التحركات.
السؤال تصدر منذ بداية هذه التحركات قبل نحو عامين، لكنه برز بشكل أساسي في أيلول الماضي مع مسألة تفعيل خط الغاز العربي لـ «إنقاذ الوضع الاقتصادي في لبنان من الانهيار» حسب البيانات الرسمية التي صدرت حينها، واعتبار أن مساعدة لبنان كانت البوابة لتوسيع تلك التحركات على الأرض، بما يخفف -بمعنى يقوض– “قانون قيصر” وعقوباته، فلا تقع الولايات المتحدة في حرج حيال احتمالية تغيير سياساتها، فهناك كما يقول المحللون والمراقبون طرقاً كثيرة لمساعدة لبنان، بإمكان دول الخليج –على سبيل المثال- ضخ الأموال اللازمة التي يحتاجها لبنان للخروج من أزمته الاقتصادية، وهي ليست بالأموال الضخمة، لبنان ليس بالبلد الكبير، كذلك بالإمكان دعمه بعدة مشاريع اقتصادية مشتركة.. وغير ذلك، من دون الاضطرار إلى البوابة السورية.
أصحاب هذه النظرية يعززونها بوقائع عدة، أبرزها قرار اتخذته إدارة الرئيس جو بايدن أواخر تشرين الثاني الماضي يتيح للمنظمات غير الحكومية التعامل مباشرة مع الدول السورية وقالت حينها وزارة الخزانة الأميركية إنها عدلت القواعد الخاصة بالعقوبات المفروضة على سورية “قانون قيصر” لتوسيع نطاق التصاريح للمنظمات غير الحكومية للمشاركة في معاملات وأنشطة مباشرة مع قطاعات حكومية سورية.
كان من الواضح هنا أن إدارة بايدن تفتح «نافذة في جدار» “قانون قيصر”.. هذا ما قاله المراقبون والمتابعون الذين لم يُظهروا قناعة بأن هذه الخطوة الأميركية هي لأسباب إنسانية كما قالت إدارة بايدن.
ثم جاء القرار العربي بالإجماع لترؤس سورية منظمة أوابك، بما عزز موقف أصحاب نظرية أن هناك سياسة أميركية جديدة غير معلنة توعز وتدعم وتغطي.. وتتجه نحو توسيع نافذة تخفيف العقوبات.. لكن هؤلاء لا يتحدثون بتفاؤل كبير عن هذه السياسية الأميركية غير المعلنة ويرون أنها سياسة مرهونة ومشروطة إلى حد كبير، بمعنى أنها لن تتحول إلى نهج، وقد تكتفي الإدارة الأميركية بهذا القدر من نافذة تخفيف العقوبات.
قاعدة «العودة إلى سورية»
مع ذلك هناك من يرى أن هذه النافذة تكفي وتزيد، لتمرير المزيد من المشروعات المهمة والمؤثرة، مثل خط الغاز العربي، وترؤس سورية لمنظمة أوابك واستضافة مؤتمرات الطاقة.. إذ إن مستقبل المنطقة كلها، وليس سورية فقط، متعلق بجزئه الأكبر بمشروعات الطاقة، النفط والغاز.. وهي من يرسم الخرائط الجيو سياسية لها، ومعادلات القوة، ويفرض على الجميع إجبارية الانخراط فيها، وليس من الخطأ الانخراط فيها فكل دولة لها قواعدها وشروطها لحماية مصالحها وحقوقها، وتالياً سيادتها وقرارها وأمنها.. وسورية إذ تنخرط في هذه المشروعات فهي تفعل ذلك وفق قواعدها وشروطها ووفق «العودة إلى سورية» وليس «ذهاب سورية إلى أحد».. ولا بد هنا من سؤال: لماذا نقول في كل مرة «قاعدة العودة إلى سورية»؟
أولاً، لأن هذا ما حدث ويحدث. وثانياً لأنه لا يمكن تجاوز موقع سورية ودورها، والذي يغنيها عن مسألة أن إنتاجها من الطاقة ليس ضخماً مثل دول أخرى موجودة في المنطقة، لكنها أحد الطرق الرئيسية لعبور الطاقة، وهناك من يذكر بأنه خلال السنوات العشر الماضية من عمر «ربيع العرب» المشؤوم لم يطرأ أي تغيير على مشروعات خطوط نقل الطاقة ولم تتغير مساراتها، ما يعني أن سورية ما زالت تحتفظ بموقعها كاملاً ضمن خرائط نقل الطاقة.. و«العودة إلى سورية» هي اعتراف بذلك.
إن غداً لناظره قريب
..وعليه فإن العام المقبل 2022 سيشهد توسع هذه العودة.. وأياً يكن ما يُقال وما ينطلق من محاولات تشويش وتشويه لا بد وأن ينعكس ذلك بفوائد على سورية، لن تنحصر في الاقتصاد فقط.. التوقعات المتفائلة تغلب وتسيطر.. والبعض يتحدث عن مفاجآت ستقلب المعادلات.. وإن غداً لناظره قريب.