لسلطنة عُمان حديث مختلف دائماً.. في السياسة والاقتصاد، وفي العلاقات العربية والإقليمية، وتالياً الدولية.
اختطت لنفسها تَميُزاً من نوع خاص، وفي كل شيء تقريباً، ما جعلها متفردة في محيطها، لناحية نمط الحكم وإدارة شؤون البلاد والعباد، ولناحية السعي دائماً لبناء علاقات متوازنة مع الجميع أساسها الحياد البناء وصولاً إلى «دور الوسيط» أو لنقل «محطة لقاء والتقاء» متى كان هذا الأمر مطلوباً أو لازماً تمهيداً لتقارب أو تفاهم أو توافق.
وليس خافياً أن المنطقة العربية (وجوارها الإقليمي) ما زالت تمور وتفور على إيقاعات «ربيع عربي» لم تنتهِ كوارثه بعد، كما لم تنتهِ فصول المؤامرات التي تستهدف الأمة العربية وتحاول الاستفراد بدولها، إمعاناً في التفريق والتقسيم.
بلغة المراقبين، اكتسبت سلطنة عُمان ثقة مستحقة بنهج الحياد البناء الذي أسس له السلطان الراحل قابوس بن سعيد، باني نهضة السلطنة.. وعلى نهجه يسير خليفته السلطان هيثم بن طارق آل سعيد.. وهو لم يخط سياسة خارجية فقط بل سياسة داخلية نجحت في توحيد البلاد تحت سقف المصلحة الوطنية العليا عبر الحكمة والحوار مع جميع أطياف الشعب وبمختلف انتماءاته، وصولاً إلى بلد منسجم مع ذاته، قيادة وشعباً، ما جنب السلطنة نيران اضطرابات المنطقة وحروبها ونزاعاتها.
عندما يتحدث العُمانيون عن سلطانهم الراحل يؤكدون أنهم مهما تحدثوا فهم لن يوفوه حقه.
يقولون: صحيح أن السلطنة لم تولد في عام 1970 حيث تسلم السلطان قابوس زمام الحكم، لكنها أدركت ذاتها منذ ذلك الوقت، فانطلقت تسابق الزمن، تريد أن تقطعه في شهور، بل في أيام. ويضيفون: مع السلطان قابوس بدأت البلاد رحلة الألف ميل التي ما زالت مستمرة تحت شعار «إلى الأمام دائماً».
هم لا يريدون لهذه المسيرة أن تنتهي، لأن رحلة التنمية والازدهار لا يُفترض بها أن تتوقف، ولن تتوقف في بلادنا.. نحن نريد ونسعى أن يكون لنا في كل يوم نهضة، هكذا يتحدث العُمانيون.
نحن في سورية نزهو أيضاً بعُمان وبنهضتها، ونشارك العُمانيين زهوهم بها، نثمن دور السلطنة المهم، ووقوفها دائماً إلى جانب سورية، وهي إذ تحتفل اليوم بعيدها الوطني الـ51 فإن السوريين يحتفلون معها، كشعب واحد في بلدين.. تبعدهم الجغرافيا، هذا صحيح، لكن الأخوّة توحدهم، أخوّة العروبة والأمة الواحدة.
من دمشق.. هنا مسقط
ولكن كيف حققت عُمان الحياد مع الاستقرار؟
قبل الانطلاق إلى الإجابة بمفهومها الأوسع والأشمل، سنتحدث أولاً عن مكانة السلطنة عند السوريين وكيف ينظرون إليها وهي التي كانت في أقسى مراحل الحرب الإرهابية التي يتعرضون لها، مقصداً ونافذة أمل في جدار عربي أراده الأعداء والمتآمرون جداراً يحاصرها ويستحكم بها ويتحكم.
لطالما كانت نظرة السوريين لسلطنة عُمان مختلفة، صحيح أن الأضواء لم تكن مسلطة عليها بالصورة التي هي عليها منذ بدء الحرب الإرهابية على سورية عام 2011 إلا أن السوريين حملوا دائماً للسلطنة محبة واحتراماً وتقديراً، فكل سوري يزورها، أو هو مقيم فيها، يتحدث بروح المحبة والسلام عنها، وعن شعبها الأصيل المضياف.
لم تبتعد السلطنة عن سورية يوماً، كذلك سورية لم تبتعد عنها، استمرت العلاقات وثيقة على أسس الثقة والاحترام المتبادل وعدم التدخل إلا في الإطار الذي يدعم سورية لاستعادة أمنها واستقرارها والانتصار في حربها ضد الإرهاب وتحرير كامل أراضيها، هذا الدعم كان مُعلناً وواضحاً في جوانبه كافة وفي أهدافه.
لم تنقطع الزيارات ولم تتوقف العلاقات.. في آذار الماضي زار وزير الخارجية المغتربين فيصل المقداد سلطنة عُمان، في خطوة كان لها الكثير من الدلالات، ومنها تأكيد المكانة المميزة التي تحظى بها السلطنة لدى سورية وهو ما عبر عنه المقداد بقوله: «الأشقاء في سلطنة عُمان كان لهم موقف مميز في كل المحافل الدولية تجاه ما جرى في سورية، ونحن نرى أن هذا الموقف يُحتذى به وهناك الآن تأييد له من الكثير من الدول التي ناصبت سورية العداء، لأنه ثبت لها أن معاناة السوريين لا تخدم أياً منها وهي تزيد من آلام ومشاكل المنطقة».
هذا يثبت أن العلاقات السورية- العُمانية بُنيت على أسس متينة من الثقة والشفافية الوضوح والاحترام المتبادل؛ لم تتأثر السلطنة بحملات التزييف والتحريض والتهويل ضد سورية، كانت نعم الصديق والسند.. وقابلتها سورية بالتقدير والامتنان.
التدخل الهادئ
وبالعودة إلى سؤال كيف حققت سلطنة عُمان الحياد مع الاستقرار، فإن الإجابة تنطلق من الداخل قبل كل شيء، ومن نهج السلطان الراحل قابوس بن سعيد، الذي أرسى دعائم دولة مستقرة موحدة بجميع أبنائها على اختلاف أطيافهم ومذاهبهم، وكان من دون ذلك عقبات كثيرة، وحتى اضطرابات، ونزاعات كان يمكن أن تسقط هذا النهج لولا أن السلطان قابوس كان يتمتع بكل ما يلزم من حكمة وحنكة لتخطي كل ذلك في سبيل تحقيق آماله بأن تكون بلاده مزدهرة قوية لها دورها ومكانتها بعدما كانت معزولة ومنزوية على نفسها وعن محيطها، فقيرة في مواردها، بلا تنمية، وبلا خطط مستقبلية طموحة تخرجها مما هي فيه من ضعف وفقر.
تولى السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم في 23 تموز من عام 1970 وهو في الـ 29 من عمره، وكان التحدي الأكبر الأول الذي واجهه هو اضطرابات ظفار، ونزاعات قبلية ومناطقية استطاع إنهاءها وتوحيد القبائل والمناطق تحت سقف الدولة الواحدة الجامعة.
انتقل بالبلاد من الحكم القبلي التقليدي إلى الحكم الدستوري، وأنشأ مجلس الشورى الذي يمثل جميع الأقاليم، والذي تشرف عليه هيئة أعلى تنفيذية تعرف بمجلس عُمان.
التحدي الثاني كان النهوض بالبلاد اقتصادياً؛ الطريق واضح، حيث كان التركيز على عائدات النفط والغاز لتحديث البنى التحتية وأنظمة الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية والتعليم والتدريب وإطلاق مشاريع توطين اليد العاملة وخلق وظائف وفرص عمل بمواجهة معدلات البطالة التي كانت تسجل ارتفاعاً قياسياً عاماً بعد عام.. إلى جانب تقوية الجيش وتحديثه.
ثم انتقل السلطان قابوس إلى عملية تنويع الاقتصاد، فأعاد تحديث قطاعات السياحة ومصائد السمك والزراعة والتصنيع، وعمل على تقوية القطاع الخاص الذي كان له دور كبير في مسيرة التنمية والتطوير.. لكن الأهم في كل ما سبق هو أن نهج التنمية والتطوير كان شاملاً لكل المناطق، لم يتم إهمال أي منطقة.. كانت عملية التنمية تسير في كل المناطق جنباً إلى جنب وفق مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية.
النهضة التي حققها السلطان قابوس لبلاده اعتمدت قاعدتين أساسيتين: الأولى أن كل ما نريده أن يكون سيكون. والثانية أنه في كل يوم لا بد أن يكون هناك عمل جديد. وما دام السلطان قابوس استطاع أن يحفز في مواطنيه حب العمل والقدرة على العطاء، وأن يتقدم بهم خطوات واسعة على طريق الرخاء والاستقرار الاجتماعي، فإنه بذلك استطاع أن يحفز مواطنيه للعمل على تحقيق هاتين القاعدتين كهدف دائم لهم في سبيل دوام مسيرة التنمية والتطوير.
التحدي الثالث، كان تمكين المرأة، حيث اعتبرها السلطان قابوس دعامة أساسية من دعامات العمل الوطني، وخصّها بيوم كعيد لها في الـ17 من تشرين الأول من كل عام، مؤكداً أن لها دوراً ريادياً في نهضة البلاد.
وقد حققت المرأة العمانية في عهده مكانة مميزة متقدمة، تألقت وتفوقت وأثبتت جدارتها، وتركت بصمتها في كل مجال وموقع.
الاستقرار الداخلي انعكس انفتاحاً خارجياً، بهدف تعزيز مكانة السلطنة في محيطها وبناء علاقات خارجية على أسس وطنية متينة.. ولأن «الخارج» بما فيه المحيط ، مشحون ملتهب، كان لا بد من اعتماد سياسات حذرة جداً ومتزنة جداً وبما لا يجر البلاد إلى أتون اضطرابات المحيط فتنتقل إليها.
بلا شك برع السلطان قابوس في إدارة سياسة خارجية، مشهود له بها، على قاعدة أن السلطنة «دولة سلام» تسعى إليه وتعمل على تحقيقه ولا تتردد في بذل كل ما يمكنها في سبيل ذلك، أدخل السلطان قابوس قواعد جديدة على العمل الدبلوماسي وعلى مستوى إدارة العلاقات الخارجية وبناء العلاقات مع الدول، قواعد جديدة تقوم على تطوير مفهوم الحياد ليكون أكثر فاعلية وتأثيراً، حيث إن الحياد ليس بالضرورة أن يكون إيجابياً في كل القضايا، فقد يكون سلبياً بصورة خطيرة إذا لم يجر توجيهه في الاتجاه الصحيح شرط ألا يمثل هذا التوجيه تعارضاً مع الهدف الأساسي من وراء الحياد.
وعلى مدى عقود استقطبت السلطنة اهتماماً متزايداً بقدرتها على ممارسة دورين معاً في آن، المحايد والوسيط ، وأن تحتفظ لنفسها بحرية الحركة والمصداقية في كلا الدورين من دون أن تكون طرفاً في أي قضية أو أزمة، ما أكسبها ثقة وقبول الجميع.
تطوير مفهوم الحياد
والسؤال: على أي قواعد طورت السلطنة مفهوم الحياد؟
أولاً: سياسات متكتمة لا تعلن إلا وقت التنفيذ، أو وقت إعلان نتائج الوساطات.
ثانياً: التدخل الهادئ وفي الوقت المناسب بما لا يؤثر على القاعدة الأساسية القائمة على الحياد.
ثالثاً: الصراحة والوضوح والواقعية في طرح المواقف والتعبير عنها.
رابعاً: الثقة والاحترام والبعد عن الخلافات وفق مبدأ أن السلطنة صديق للجميع وعلى مسافة واحدة من الجميع.
هذا النهج لم ينحصر فقط في إطار دور عُمان كوسيط بل إن السلطنة اعتمدته في بناء جميع علاقاتها الخارجية على أساس السلام والحوار والثقة والاحترام.
هكذا ترك السلطان قابوس بلاده، منيعة حصينة في الداخل، تحظى بالاحترام والثقة في محيطها وعلى مستوى علاقاتها الدولية.
لذلك عندما توفي في 10 كانون الثاني من عام 2020 لم يكن هناك من خوف على البلاد فهو كما رسم في حياته نهجاً حمى السلطنة وحصّنها، رسم نهج خلافته قانونياً ودستورياً ليحمي بلاده بعد مماته أيضاً.. وهكذا كان خليفته السلطان هيثم بن طارق على صورته ليكمل المسيرة والنهج، وهو ما أكده في أول خطاب له بعد توليه الحكم، مشدداً على أن «السلطنة ستبقى على ثوابتها القائمة على السلام والحوار وحسن الجوار واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤون الغير والنأي عن الصراعات والخلافات، والاستمرار في دور الوسيط الإيجابي والبناء لما فيه خير الدول وسلام الشعوب».
ولأن رحلة الألف ميل التي بدأها السلطان قابوس لا يجب أن تتوقف.. كان لا بد من البناء على الإرث الذي تركه وبما يواكب التطورات التي يشهدها المحيط والعالم، وأيضاً بما يعزز من الاستقرار والأمن، الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، في ظل الكثير من الأزمات الاقتصادية التي يشهدها العالم، وفي ظل التحولات الكبرى في ميزان القوى العالمي والذي ينعكس بآثاره على جميع الدول سلباً أو إيجاباً تبعاً لما اتخذته كل دولة من قواعد التحصين والحماية.
«عُمان 2040»
من هنا كانت رؤية «عمان 2040» التي أطلقها السلطان هيثم في كانون الأول من عام 2020 ودخلت حيز التنفيذ في الأول من كانون الثاني من عام 2021 مؤكداً أنها خلاصة جهد وطني وتوافق مجتمعي وأن نجاحها مسؤولية الجميع من دون استثناء كل حسب موقعه، في سبيل توجيه كافة الجهود والموارد لتحقيق أهداف وبرامج التوازن المالي وتطوير التشريعات المتعلقة بالاستثمار، وتبسيط وتسريع الخدمات الحكومية، وتنمية المناطق الاقتصادية والمشاريع الكبرى مع تنمية القدرات الوطنية وربط كل هذه الجهود بتشغيل العُمانيين باعتبارهم أحد أهم الأولويات الوطنية.
هذا يعني أن رؤية «عُمان2040» ترتكز على أربعة محاور أساسية هي:
1-الإنسان والمجتمع.
2- الاقتصاد والتنمية.
3- الحوكمة والأداء المؤسسي.
4- البيئة والاستدامة.
وتهدف الرؤية إلى تحسين تصنيف سلطنة عُمان في عدة مؤشرات عالمية، لتصبح ضمن أفضل 20 دولة في العالم في مؤشر الابتكار العالمي، ومؤشر التنافسية العالمي، ومؤشر الأداء البيئي، وضمن أفضل 10 دول في العالم في مؤشرات الحوكمة ومؤشر التنافسية، كما تهدف إلى زيادة متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 90 في المئة، ورفع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 5 في المئة، ورفع نسبة الاستثمار الأجنبي من إجمالي الناتج المحلي إلى 10 في المئة، ورفع نسبة إسهام القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 90 في المئة، ورفع حصة القوى العاملة العُمانية من إجمالي الوظائف المستحدثة في القطاع الخاص إلى 40 في المئة.
وتتمثل أولويات «رؤية 2040» في التعليم والبحث العلمي والقدرات الوطنية والصحة والمواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية والرفاه والحماية الاجتماعية والقيادة والإدارة والاقتصاد والتنويع الاقتصادي والاستدامة المالية وسوق العمل والتشغيل والقطاع الخاص والاستثمار والتعاون الدولي وتنمية المحافظات والمدن المستدامة والبيئة والموارد الطبيعية والتشريع والقضاء والرقابة وحوكمة الجهاز الإداري للدولة والموارد والمشاريع.
هكذا تبني سلطنة عُمان مستقبلها مع السلطان هيثم بن طارق كما بنت نهضتها مع السلطان الراحل قابوس بن سعيد، حيث العمل والجد والإخلاص والتفاني وثيقة شرف وشعار لكل زمان ولكل مرحلة على طريق دوام التنمية والتطوير وإعلاء شأن الوطن.