الولايات المتحدة وسؤال أين المفر.. الصين في كل مكان؟

رغم أن الرئيس الأمريكي جو بايدن سكت في الصباح عن الكلام المباح حول تايوان.. ولا يزال على سكوته منذ يوم الجمعة الماضي، إلا أن كلامه لا يزال يلف ويدور في أجواء المنطقة (وجوارها) دون أن يجد المراقبون والخبراء مستقراً لما يمكن أن يقود إليه كلام بايدن عن أن «الولايات المتحدة ستساعد تايوان في حال تعرضت لهجوم من الصين». لكن الجميع يفترض، بديهياً، أو يتفق على أن هذه المساعدة ستكون عسكرية ما دام الهجوم الصيني سيكون عسكرياً، أي أن الولايات المتحدة – كما يُفهم من كلام بايدن – ستدخل في مواجهة/حرب عسكرية مباشرة مع الصين.

فريق يفترض أن المواجهة ستحدث حتماً.. إذ لا مفر منها بالنسبة للولايات المتحدة التي ترى أن الصين باتت في كل مكان، وأنه لا بد من التحرك اليوم قبل الغد، ولكن قبل ذلك تريد الولايات المتحدة ضمان أن لا يخرج هذا التحرك عن نطاقه الجغرافي المحدد، بحيث لا يجر عواقب وخيمة عليها.. وتريد أن تكون متيقنة من أن حلفاءها الجدد في منطقة المحيطين الهادئ والهندي سيكونون على قدر المواجهة التي تريدها.

وفريق يفترض أن الولايات المتحدة لن تغامر مع الصين، فهي تعرف جيداً أنها لن تكون قادرة على احتواء التداعيات والعواقب، هذا عدا عن أن المواجهة مع الصين غير متاحة، بمعنى ليست في متناول يد الولايات المتحدة، أي غير قادرة على القيام بها، فالصين أقوى من أن تفكر الولايات المتحدة في مواجهتها أو الوقوف في وجهها عسكرياً إذا ما أرادت حل قضية تعتبرها شأناً داخلياً، حيث تايوان جزء من الأراضي الصينية، ولا بد من استعادتها واستعادة وحدة الأراضي الصينية و«بالقوة إذا لزم الأمر» كما أعلنت الصين في مرات عدة.

*** المتوقع والمتاح

البيت الأبيض في تعقيبه على كلام بايدن لم يخرج عن المتوقع لناحية أن لا خلفيات كامنة ولا نيات مبيتة، قائلاً: إن «الرئيس بايدن لم يُعلن عن أي تغيير في سياستنا، وليس هناك تغيير في سياستنا».

إذاً، هل هي زلة لسان، هل جاء كلام بايدن في سياق إحدى سهواته حيث تختلط عليه القضايا فيأتي بكلام في غير محله؟

لا هذه ولا تلك.

في السياسة عموماً ليس هناك من زلات لسان ولا من سهوات، فكيف إذا كنا نتحدث عن السياسة الأميركية؟.. وإذا ما تعمقنا قليلاً فيها سنجد كل الأجوبة، حتى عندما يخرج عن مسؤوليها تصريحين متضادين في الوقت نفسه كأن يضيف البيت الأبيض بعد تعقيبه آنف الذكر بأن الولايات المتحدة لا زالت «متمسكة بالتزاماتها بموجب القانون لدعم “حق الدفاع عن النفس “لتايوان ومعارضة أي تغييرات أحادية الجانب في الوضع الراهن».. والمقصود هنا قانون العلاقات مع تايوان لعام 1979«والذي ينص على بيع تايوان السلاح اللازم للدفاع عن نفسها بشكل مناسب».

المحللون والمراقبون يرون أن الإجابة تكمن هنا في هذا القانون الذي لا يوضح في أي من فقراته ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتدخل عسكرياً في مرحلة ما لمصلحة تايوان ضد الصين. الولايات المتحدة تسمي هذا اللاوضوح العسكري بسياسة «الغموض الإستراتيجي» وتقول إن هذه السياسة هي من فرض «السلام» وحال دون وقوع مواجهة عسكرية من خلال إبقاء الجانبين في «حالة تخمين» حول موقف الولايات المتحدة، فلا تايوان متأكدة من أن الولايات المتحدة ستدافع عنها في حال قررت الصين حلاً عسكرياً لتحقيق «لم الشمل» ولا الصين متأكدة من أن الولايات المتحدة يمكن أن تغامر وتدخل على خط ذلك الحل العسكري.

***  ما كان وما سيكون

هذا ما كان عليه الأمر منذ عام 1979، ولكن ما كان لا يبدو أنه يصح الآن، وباتت الأصوات تتعالى في الولايات المتحدة بضرورة الانتقال إلى سياسة الوضوح الإستراتيجي، فالصين باتت على الأبواب، وهي لم تعد تحتاج إلى استئذان للدخول، حتى أن الولايات المتحدة ستجد نفسها في المرحلة المقبلة هي من يفتح الأبواب لها..

هل حقاً هذا ما سيحدث؟

في الولايات يتحدثون عن ذلك وكأنه واقع غداً، لذلك لن يكون كلام بايدن يوم الجمعة الماضي، الكلام الأخير. وأغلب الظن أننا لن ننتظر وقتاً طويلاً حتى نسمع كلاماً مماثلاً من بايدن أو من غيره في الإدارة الأميركية. لنعيد التذكير هنا بما قاله وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن (تزامناً مع كلام بايدن) في مؤتمر صحفي رداً على سؤال حول رد فعل واشنطن على هجوم صيني محتمل على تايون. أوستن قال: لن أشارك في التكهنات، لكننا لن نتردد في مساعدة تايوان في الدفاع عن نفسها، مع الالتزام بسياسة «صين واحدة».

ظاهرياً، لا يخرج جواب أوستن عن سياسات الغموض الإستراتيجي. أما عملياً فهو يرسل إشارات واضحة بأن الولايات المتحدة ستتدخل، كيف ولماذا؟

في الأجوبة تفاصيل كبيرة وصغيرة، تتعدد وتتشعب، ويمكن هنا أن نجمل الأبرز منها:

– كما هي تايوان خط أحمر بالنسبة للصين، فإن هذه الأخيرة أي الصين هي خط أحمر بالنسبة للولايات المتحدة، ولكن بصورة مختلفة طبعاً، ولا يصح هنا مقارنة الوضع الأميركي مع الصين مع أي وضع آخر، كأن يجري مقارنته مع أفغانستان أو فيتنام على سبيل المثال، فلم يسبق أن شكلت دولة ما أو قوة ما -منذ الاتحاد السوفييتي- تهديدا حقيقياً مباشراً للولايات المتحدة كما هي الصين اليوم، لا بل إن المسؤولين الأميركيين يصنفونها أخطر بكثير من الاتحاد السوفييتي، وبالتالي فإن الولايات المتحدة ستلعب بكل الأوراق المتاحة بما فيها الخطوط الحمراء بالنسبة للصين، وعلى رأسها تايوان.

– في كل حروبها وهجماتها وتدخلاتها العسكرية السابقة، كانت الولايات المتحدة مدعومة دولياً، ومن لم يدعمها من الدول كان يقف على الحياد، أو يتدخل بصورة غير مباشرة وبما لا يؤثر على المخططات الأميركية، هؤلاء كانت الولايات المتحدة تتعامل معهم من منطلق (أعطيك وأمرر لك بعض المكاسب هنا وهناك، مقابل أن تترك الساحة هنا). وهكذا كانت الولايات المتحدة تكسب وتتسيد في كل مرة دون منازع أو منافس.. أما مع الصين فإن الوضع مختلف كلياً. الصين كدولة وكقوة هي الخصم الأقوى والأكبر، على كل المستويات، ولا ينفع معها مكاسب هنا ومصالح هناك. إنها تزاحم الولايات المتحدة في كل شيء. هذه المزاحمة بالقاموس الأميركي هي حرب عليها، أما في القاموس الصيني فهي حماية وتأمين للحقوق والسيادة وردع للأطماع الخارجية.

– يمكن القول إن واشنطن تمتلك أوراقاً عدة رابحة في السياسات التي تعتمدها حتى الآن لاحتواء أو لمواجهة الصين، أو على الأقل للمحافظة على خطوط توازن معها، لكنها بالمجمل ليست أوراقاً عسكرية، وعليه فإن تأثيرها ليس على المدى الطويل، بمعنى أن لا تأثير لها في وضع حد نهائي للصعود الصيني الذي يمتد طولاً وعرضاً على الأرض، وتكنولوجيا علمية وعسكرية مذهلة في الفضاء.. فقط تايوان هي من تعتبرها واشنطن ورقتها العسكرية الرابحة بصورة دائمة، فهي منذ خمسينيات القرن الماضي ترفع هذه الورقة في وجه الصين مع نجاح ثورة ماو تسي تونغ وتوحيد البلاد تحت راية جمهورية الصين الشعبية، باستثناء تايوان التي هرب إليها القوميون بقيادة تشيانغ كاي شيك لتتحول على أيديهم إلى جزء متمرد، بدعم أميركي بالمال والسلاح، لكن هذا لم يمنع قادة الصين المتواليين خلال العقود الماضية من تجديد التعهد باستعادة تايوان لتكتمل وحدة الأراضي الصينية.

*** الوضوح الإستراتيجي

– مقابل سياسة الغموض الإستراتيجي التي تعتمدها الولايات المتحدة، فإن الصين تستمر في اعتماد سياسة الوضوح الإستراتيجي، إنها سياسة مفهومة ومنطقية وواجبة ما دام الحديث هو عن جزء من أراضي البلاد يريد الأعداء تحويله إلى منصة استهداف.

لم تخفِ الصين يوماً بأنها ستستعيد تايوان ولو بالقوة، هذا قرار قائم ومعلوم للجميع وهو ينتظر التنفيذ فقط، صحيح أنه قرار عمره عقود ولكن في السياسة الصينية كل قرار محسوب بميزان دقيق فإذا ما اتخذ قرار التنفيذ كانت النتيجة نهائية حاسمة. لا يغيب عن الصين أن الولايات المتحدة ربما وصلت إلى النقطة التي لا مفر أمامها من استخدام تايوان كورقة عسكرية، وهذا ما أعلنه بايدن، وبالتالي هي تنتظر أن تقدم الصين على خطوة عسكرية باتجاه تايوان لينفذ عندها بايدن ما قاله، حيث ستكون هذه الخطوة العسكرية حجة الولايات المتحدة للتدخل من باب مساعدة تايوان في الدفاع عن نفسها كما ينص القانون الأميركي لعام 1979.

عطفاً على ذلك، وكما سعت الولايات المتحدة لامتلاك ورقة جغرافية عسكرية بمواجهة الصين، فإن هذه الأخيرة فعلت المثل، واتجهت نحو دول أميركا الوسطى التي تعتبرها الولايات المتحدة حديقتها الخلفية ، واختارت الأقرب منها، وهي السلفادور. لا تعتمد الصين على العسكرة في صعودها بل تعتمد على المال والأعمال، وإن كانت تستمر في الوقت نفسه في تقوية نفسها عسكرياً، وهي تعتمد النهج نفسه في دول أميركا الوسطى. لكن إذا ما صعدت الولايات المتحدة عسكرياً في تايوان فإن الصين تستطيع أن تنتقل إلى العسكرة في أميركا اللاتينية وتكون السلفادور على سبيل المثال قاعدتها العسكرية الأقرب إلى أهم المنشآت العسكرية الإستراتيجية الأميركية. هذه رسالة فهمتها واشنطن جيداً، وعلى أساسها هي مضطرة لإعادة حساباتها. لنذكر هنا بجولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الأسبوع الماضي في أميركا اللاتينية (الإكوادور وكولومبيا وقبلهما المكسيك) وكانت الصين عنواناً بارزاً في الجولة لم يخفه بلينكن لكنه سعى إلى تأكيد أن واشنطن مطمئنة وفي حالة استرخاء فيما يخص الصين حتى أنها لا تفكر في احتوائها أو ردعها أو تخيير الدول بين بلاده والصين. هكذا تحدث بلينكن. كان هذا طبعاً قبل أن يخرج بايدن ويتحدث علناً عن مساعدة تايوان عسكرياً ضد الصين، فهل جاءه بلينكن بأخبار جيدة.. ربما.

الجميع يتفق أن الصين لا تطلب من الولايات المتحدة أمراً خارج حقوقها كدولة لها سيادة تسعى نحو الازدهار والرفاهية والقوة لشعبها، ولأن تكون مستقرة وآمنة من التهديدات، فيما واشنطن لا تمتلك أي حق على الصين في مطالبتها بالتنازل عن تلك الحقوق، وهذا طبيعي ومفهوم إذ إن الولايات المتحدة لا تفكر إلا بمنطق الهيمنة والسيطرة والتسلط ونهب الثروات واستعباد الشعوب، لذلك لن تتوقف عن التدخل في شؤون الصين ولن ترمي ورقة تايوان خصوصاً في هذا الوقت الذي تبدو فيه العلاقات بين الجانبين متجهة نحو مستوى أكثر سخونة.. وإذا ما حُشرت واشنطن أكثر فإن لا شيء سيمنعها من الانتقال إلى المستوى العسكري المباشر. ولكن لا يمكنها الاعتقاد ولو للحظة واحدة أنها تستطيع حصرها في نطاق تايوان كجغرافيا، ففي الجوار دول أكثر تضرراً لن تقف على الحياد، وهي ليست على علاقة طيبة مع الولايات المتحدة.. وقد تفكر بأن هذه فرصتها ولا بد من اغتنامها.

*** قريبة.. وربما فجأة

لا شك أن الولايات المتحدة في صورة الوضع كاملاً، ولا شك أن كلا الجانبين، الولايات المتحدة والصين، يفهمان على بعضهما البعض جيداً، خصوصاً في هذه المرحلة حيث الرسائل المتبادلة واضحة جداُ وأكثر من أي وقت مضى .. وكلاهما يدرك أن المواجهة العسكرية دونها عوامل عديدة لم تكتمل بعد، لذلك فإن هذه المواجهة لن تكون غداً أو بعد غد لكنها قد تقع .. وقد تقع فجأة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
اتحاد الكتاب "فرع اللاذقية" يحيي مع مؤسسة أرض الشام ندوة عن المرأة السورية ندوة فكرية ثقافية عن "النقد والنقد الإعلامي" في ثقافي أبو رمانة السفير الضحاك: سياسات الغرب العدائية أضرت بقدرة الأمم المتحدة على تنفيذ مشاريع التعافي المبكر ودعم الشعب السوري مؤتمر جمعية عمومية القدم لم يأتِ بجديد بغياب مندوبي الأندية... والتصويت على لا شيء! الرئيس الأسد يؤكد خلال لقائه خاجي عمق العلاقات بين سورية وإيران وزير الداخلية أمام مؤتمر بغداد الدولي لمكافحة المخدرات: سورية تضطلع بدور فعال في مكافحة المخدرات ومنفتحة للتعاون مع الجميع الرئيس الأسد يؤكد لوفد اتحاد المهندسين العرب على الدور الاجتماعي والتنموي للمنظمات والاتحادات العربية عقب لقائه الوزير المقداد.. أصغير خاجي: طهران تدعم مسار الحوار السياسي بين سورية وتركيا العلاقات السورية- الروسية تزدهر في عامها الـ٨٠ رئاسيات أميركا ومعيارا الشرق الأوسط والاقتصاد العالمي.. ترامب أكثر اطمئناناً بانتظار البديل الديمقراطي «الضعيف».. وهاريس الأوفر حظاً لكن المفاجآت تبقى قائمة