ما العمل عندما يكون الاتحاد الأوروبي أمام معادلة مستحيلة الحل؟
والمعادلة مفادها أن أزماته الداخلية والبينية وصلت إلى مرحلة من الاستعصاء بات معها التفكك خياراً حتمياً.. بالمقابل فإن التحديات والأزمات الخارجية وصلت إلى مرحلة من الخطورة والتهديد بات معها استمرار الاتحاد خياراً حتمياً.
المعادلة برزت رسمياً مع بداية هذه الألفية، وإن كانت إرهاصاتها الأولى ظهرت عقب تفكك الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، حيث كان يُفترض بأوروبا أن تعود إلى الواجهة العالمية، وأن يكون اتحادها أقوى وأكثر نفوذاً، وبالتالي أن تنتهي تبعيتها للولايات المتحدة.
لكن ما جرى هو العكس تماماً. لقد فشلت أوروبا كاتحاد في التكيف مع العالم المتعدد الأقطاب الذي ظهر بعد عقد من نهاية الحرب الباردة، وفشلت في مواكبة عصر العولمة والثورة الرقمية التي اجتاحت العالم، وكانت الصين /الخصم/ رائدة فيها.. أكثر من ذلك بدأ الاتحاد الأوروبي يُراكم الأزمات الداخلية والبينية ويتجاهل حلها، وبعض هذا التجاهل كانت دوافعه أنانية مفرطة من الدول الغنية تجاه الدول الفقيرة في الاتحاد.
بين الأمس واليوم
منذ بدء مسار التوسعة في منتصف التسعينيات (أي فتح باب الانضمام إليه.. ولا يزال الباب مفتوحاً).. منذ بدء التوسعة كان الخبراء يحذرون من أن القارة الأوروبية أكبر من أن تنصهر في «دولة واحدة».. هذا عدا عن أن بينها ما صنع التاريخ من عداوات وضغائن لا تنسى، ولم تنسَ.
اليوم انقلب الخبراء على تحذيراتهم، مُطلقين تحذيرات مضادة مفادها أن القارة الأوروبية أصغر من أن تنقسم على نفسها في ظل التحديات التي تفرضها قوى القرن الـ21 الجديدة، والتي تتمدد طولاً وعرضاً في الجغرافيا والسياسة والاقتصاد والعسكرة.
أيضاً لن يكون بإمكان أوروبا المنقسمة مواجهة مخاطر ما تفرضه الحرب الأميركية على تلك القوى في سبيل المحافظة على نفوذها العالمي، بمعنى أن أوروبا لن ينفعها أن تضع نفسها في «بوز المدفع» الأميركي، فيما هي لن تجني شيئاً بالمقابل.
لنعد بالتاريخ إلى عام 1900 حيث كانت أوروبا تسيطر على أكثر من 70% من الأراضي والسكان في العالم.
في عام 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى بسبب التنافس على زعامة العالم ما بين ألمانيا وبريطانيا، وقد مثلت تلك الحرب انتحاراً سياسياً واقتصادياً وديمغرافياً حقيقياً لأوروبا.
أفرزت الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) صراعات من نوع آخر بين الأوروبيين تركزت على الطبقة والعرق، أوصلت العالم إلى حرب ثانية (1939-1945) لم تحسم إلا مع تدخل الولايات المتحدة الأميركية التي انفردت بالزعامة العالمية مع الاتحاد السوفييتي، فيما الأوروبيون انكفؤوا تحت الظل الأميركي، اقتصادياً بعد مشروع مارشال، وعسكرياً عقب فشل «مجموعة الدفاع المشترك» التي أسسها الأوروبيون سنة 1954.
ولكن يُحسب لهم أنهم سعوا طيلة ما بعد الحرب العالمية الثانية لتغيير هذا الوضع والعودة إلى مرحلة القوة والنفوذ.. وفي سبيل ذلك أسسوا اتحاداً خاصاً بهم هو أكبر اتحاد بين دول مستقلة على الكرة الأرضية، أفرز أكبر سوق في العالم، وأقوى وأوسع منظومة قانونية وتشريعية على الساحة الدولية، هذا عدا عن عملته (اليورو) التي تحولت عملة رئيسية إلى جانب العملات العالمية، وبما أمكنة الاستقلال نوعاً ما عن الدولار الأميركي.
أيضاً لنعد بالتاريخ، ونذكر بأن الاتحاد كان وليد رغبة دوله بإنهاء الحروب الدموية بينها.. الخطوة الأولى اتخذتها ست دول هي بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ولكسمبورغ وهولندا عام 1950 تحت مسمى المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، إيماناً منها بأن الاقتصاد هو أساس الوحدة والموجه الرئيسي لها، وكانت هذه المجموعة حجر الأساس لقيام الاتحاد، حيث توسعت هذه المجموعة عام 1957 عبر التوقيع على معاهدة روما القاضية بإنشاء المجتمع الاقتصادي الأوروبي.
وفي عام 1993 تم تدشين المواطنة الأوروبية من خلال معاهدة ماستريخت التي أرست دعائم الاتحاد الثلاثة وهي:
- المجتمعات الأوروبية التي ركزت على السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
2- مفوضية السياسة الخارجية والأمنية.
3- أجهزة التعاون في مجال الشرطة والقضاء ومكافحة الجريمة.
وفي عام 2009 تم التوقيع على معاهدة لشبونة التي وحدت الدعائم الثلاثة في هيكل قانوني واحد هو الاتحاد الأوروبي الذي أصبح 27 دولة تضم 447 مليون مواطن يعيشون على 4 ملايين كلم2. وكانت الأهداف تتركز على تعزيز حياة الرفاهية وحرية تنقل الأفراد والسلع ورأس المال وتوسيع الحريات والعدالة والأمن مع احترام الثقافات واللغات المختلفة للدول الأعضاء، إضافة إلى التعامل مع القضايا الخارجية ككتلة واحدة لها كلمتها على الساحة الدولية والتي لا يمكن لأحد تجاهلها أو تجاوزها.
ما الذي تغير؟
حتى نهاية العشرية الأولى من القرن الحالي، الواحد والعشرين، كانت هذه هي الصورة المثالية التي صدرها الأوروبيون عن اتحادهم، وعن أنهم كانوا بالفعل يتنعمون بحياة هي بمنزلة الحلم لغيرهم.
لكن الخراب تحت هذه الصورة كان أكبر وأعمق من أن يستمر قادة أوروبا بإخفائه أو النجاح في احتوائه، فانفجرت الأزمات دفعة واحدة، وقادت إلى أولى الكوارث والمتمثلة في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد عام 2015 (وتم إنجاز الخروج الكامل -بريكست- عام 2020). مع الخروج البريطاني بدأ سؤال المصير والمستقبل يفرض نفسه، خصوصاً مع إعلان بريطانيا صراحة أنها تفضل البقاء تحت الظل الأميركي على البقاء في الاتحاد الأوروبي حتى لو كانت من قادته الرئيسيين.
بعدها تضاعفت أزمات الاتحاد الأوروبي وتراكمت، من دون أن تمد لهم حليفتهم الأميركية يد المساعدة، بل إن مواقفها كانت الكارثة الثانية بالنسبة لهم.. كارثة مستمرة، ولا يملك الأوروبيون حلاً معها، إلا الطاعة والطأطأة، ليستمر سؤال المصير والمستقبل يطرق بقوة أكبر على أبواب الأوروبيين.
ورغم أن أزمات الاتحاد الأوروبي تكاد لا تحصى في مقالة واحدة إلا أنها جميعها في كفة، وتبعيتهم للولايات المتحدة في كفة ثانية.. ويا ليت الكارثة تتوقف فقط عند التبعية، بل في النهج الأميركي المعادي للاتحاد والذي يتسع على الأرض.
لنورد بعض الأمثلة:
– انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الأجواء المفتوحة في تشرين الثاني 2020.
– الانسحاب من اتفاق درع الخصوصية لنقل البيانات التجارية للشركات بين ضفتي الأطلسي في 16 تموز 2020.
– توقيع اتفاقية تعاون دفاعي مع بولندا في شباط 2021.
– تخفيض عدد القوات الأميركية في منطقة الساحل الإفريقي التي يعتبرها الأوروبيون مهمة جداً لأمنهم.
– اتفاق تعاون أمني مع بريطانيا وسلوفينيا في آب 2020.
– توقيع مذكرة تفاهم أمني مع قبرص تشمل إنشاء مركز للأمن البري والبحري والموانئ فيها في أيلول 2020.
– وأخيراً توقيع اتفاق عسكري/ أمني دفاعي مع أستراليا وبريطانيا «أوكوس» قبل نحو شهرين من وراء ظهر الأوروبيين وقادتهم.. اتفاق يحشرهم أكثر في خانة الفشل في التعامل مع التطورات العالمية، أو في رسم سياسات جديدة تواكب صعود قوى دولية جديدة وتشكل كيانات اقتصادية كبيرة خارج السيطرة الأميركية، حيث كان بإمكان الأوروبيين الاستثمار فيها والاستفادة من إمكاناتها الضخمة بما يخفف أزماتهم الاقتصادية.. والأهم بما يبقيهم على ساحة الفعل الدولي، وبما يجعل تهديد سؤال المصير والمستقبل ينكفئ بعض الوقت، فيتنفس الأوروبيون الصعداء… لكن الولايات المتحدة تمنعهم من ذلك من خلال الاتفاقات والتحالفات الجديدة التي تبينها على حساب التحالفات القديمة، وأغلبها مع الأوروبيين.. وهم كلما حاولوا ترتيب أوراقهم وأولوياتهم الداخلية والخارجية، عملت الولايات المتحدة على بعثرتها من جديد.. باختصار الولايات المتحدة تبدو كمن يريد دفن الاتحاد الأوروبي.. لماذا؟
احذر حليفك؟
ما يبدو من مجمل السياسات الأميركية في ظل صعود قوى دولية جديدة، أن الولايات المتحدة تجد نفسها أمام خيار واحد وهو العمل على إضعاف الحلفاء بالتوازي مع إضعاف الخصوم وفق مبدأ «احذر عدوك مرة واحذر صديقك (حليفك) ألف مرة.. لربما انقلب الصديق عدواً فكان أعلم بالمضرة».. لكن هذا المبدأ لا يبدو صحيحاً أو مفهوماً في ظل أن أي حليف -حتى الآن- لم ينقلب بما يضر الولايات المتحدة، بل هم يطلبون رضاها على الدوام في كل شيء حتى الحروب، يخوضونها معها أو بالنيابة عنها ولو كانت ضد مصالحهم.
إذاً.. ما الذي يقلق الولايات المتحدة؟
كل شيء، كل الدول، كل العالم.. الحليف والعدو على السواء. كل ما يحدث في العالم لا يُطمئن الولايات المتحدة التي ترى أن الأحداث العالمية تجري في غير مصلحتها، ولا بد أن تجر الحلفاء إلى صفوف الخصوم عاجلاً أم آجلاً، لذلك يُفضل أن يكونوا حلفاء ضعفاء مفككين لا يستفيد منهم الخصم.. هذا ما تريده الولايات المتحدة، وعلى الاتحاد الأوروبي الاستعداد دائماً لمزيد من الضربات.. فهل يتلقاها بالطاعة ذاتها أم يقلب الطاولة؟