لا أحد يُجادل في أن الصين على رأس بنك الأهداف الذي وضعه ثلاثي «أوكوس- AUKUS».. بالمقابل فإن من قِصَر النظر وعدم رؤية أن «بنك أوكوس» ممتلئ بالأهداف من إيران شرقاً حتى أوروبا -الحليفة- غرباً.. وهي بالنسبة للولايات المتحدة لا تقل أهمية عن الصين، بل إن الولايات المتحدة إذا ما أرادت الفوز في المواجهة مع الصين، أو على الأقل التوازي معها، فإنها تحتاج إلى ضمان الفوز في بقية الأهداف.. وهذه الأهداف ما هي إلا دول تريد الولايات المتحدة أن تضمن اصطفافها معها في المواجهة مع الصين، ترغيباً أو ترهيباً، ولا ينفع هنا الحياد، إما مع أو ضد، وعليه فهي لن توفر وسيلة في سبيل ذلك، ولن توفر أي دولة، من الاستهداف، حتى لو كانت أقرب الحلفاء، عليها أن تستجيب.. وإلا فإن الثمن سيكون غالياً وقاسياً.
من هنا يجب عدم الاستغراب أن تكون فرنسا أول هدف، وربما أول نجاح، إذ إن الولايات المتحدة تعرف من أين تؤكل الكتف الفرنسية، فكانت أستراليا بيدقها الذي تقدم لتنفيذ عملية التمهيد الأولى.. فيما مهمة البيدق البريطاني تنفيذ عملية الاحتواء وصد الهزة الارتدادية القادمة من فرنسا.
لا شك أن لأستراليا وبريطانيا أهدافهما الخاصة من وراء اتفاق “أوكوس”، لكنهما في الوقت ذاته تدركان أنها لن تتحقق إلا بالتقاطع مع الأهداف الأميركية، أو بالرضوخ للشروط والضغوط الأميركية.. ولا بأس من الرضوخ، فتلك الأهداف الخاصة لها قيمتها على الساحة الدولية وهي الضامن لبقائهما ضمن نظام عالمي جديد يتشكل.. ولا بأس أن يكون البقاء، سمعاً وطاعة، تحت الظل الأميركي.
*** لماذا فرنسا؟
من حيث لا تدري فرنسا، جاءتها الضربة، ومن أطراف لم تتوقعها، وكانت من القوة والقسوة لدرجة اهتزت معها أركان الإليزيه، الذي أطلق عاصفة من التصريحات الغاضبة والمنددة، وبدا أن فرنسا لا تريد أن تسمع شيئاً من ثلاثي أوكوس، وهم أقرب حلفائها.. صمّت أذنيها عن كل رسائل «الحب» التي وصلتها منهم، بعد رسائل «الكذب والازدواجية والاحتقار» التي وجهها الثلاثي نفسه، الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، بعد اتفاق التعاون الأمني في منطقتي المحيطين الهادي والهندي، الذي وقعوه قبل أسبوع، والذي ترافق مع إلغاء أستراليا صفقة غواصات مع فرنسا (12 غواصة تقليدية بقيمة عشرات مليارات الدولارات)..
.. ولم يكن لفرنسا أن تقرأ اتفاق أوكوس إلا في إطارٍ معادٍ لها، لن تنفع معه أي تطمينات، طالما أنها لا تتضمن العودة عن الإلغاء، أو أن يكون لفرنسا مكان في «أوكوس» إذ إنه وحسب التصريحات -وفي حال توسيع اتفاق أوكوس في مرحلة لاحقة- فإنه سيشمل اليابان وربما الهند، فيما فرنسا غير مدعوة.. لذلك لا تستطيع هذه الأخيرة الاطمئنان، والركون إلى مسألة أن المستهدف هو الصين.
الغضب والخيبة، ليس مردهما فقط ما تعرضت له فرنسا من احتقار حلفائها، بل أيضاً لأن فرنسا تجد نفسها وحيدة.. وخاسرة في المواجهة مع ثلاثي أوكوس، فمن سيقف معها، إذا كان محيطها الأوروبي، اتخذ موقفاً هو بالحد الأدنى، بل هو مخجل، مكتفياً بالقول بأنه لم يكن على علم بالاتفاق، وأنه ينتظر مزيداً من المعلومات حوله «ومعرفة أسباب معاملة فرنسا بهذه الطريقة غير المقبولة».
لنلاحظ أن فرنسا خلال اليومين الماضيين أبدت قليلاً من الاستماع لما يقوله ثلاثي أوكوس مؤكدة أن ردود فعلها تجاهه، ومنها استدعاء سفيريها في الولايات المتحدة وأستراليا «ليس قطيعة» وإنما تعبير عن «جدية رد فعلها» على إلغاء الصفقة، والذي يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار.. ولكن حتى الآن -وعدا عن «رسائل الحب» آنفة الذكر- لم يصدر عن ثلاثي أوكوس ما يُوحي بإجراء عملي يعوض فرنسا خسائرها القاسية مادياً ومعنوياً.
*** ما وراء «أوكوس»
بالعودة إلى سؤال لماذا فرنسا، وكيف يمكن أن تكون سبيلاً لمواجهة الصين، من دون مشاركة رسمية منها؟
يُجمل المحللون والمراقبون إجاباتهم على النحو التالي:
أولاً، قد لا تكون فرنسا قوة عالمية، وهي أقل أهمية من أستراليا لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكنها لاعب مهم فيها، فهي كما يُصنفها المراقبون «قوة مقيمة» في المحيط الهادئ، حيث يعيش 1.6 مليون فرنسي في أقاليم ما وراء البحار مثل نيو كاليدونيا وبولينيزيا الفرنسية، وهذه الأقاليم تشكل منطقة اقتصادية كبيرة جداً (تشكل ثلاثة أرباع إجمالي فرنسا).. هذا العامل تريد الولايات المتحدة تحويله إلى لاعب معها ضد فرنسا التي ترى فيها أفضل رهان داخل الاتحاد الأوروبي لكي تجبره على لعب دور حليف ضد الصين.
ثانياً، وعطفاً على السؤال السابق، كيف يمكن أن يكون إلغاء عقد تجاري واحد فقط قادر على إجبار فرنسا على لعب دور في المنطقة ضد الصين؟
يركز المراقبون على السمعة العسكرية لفرنسا التي ستتضرر بصورة كبيرة جداً، وربما غير قابلة للإصلاح.. سيكون هناك قلة ثقة عالمية بصناعة الأسلحة الفرنسية، ستنعكس على صفقات مماثلة مع دول أخرى (هناك أنباء عن أن سويسرا ألغت صفقة طائرات مع رافال الفرنسية لصالح طائرات إف 35 أميركية).. وهذا سينعكس حكماً على ميزانية التسلح، وسيشكل ضربة اقتصادية موجعة لقطاع لصناعات العسكرية المهم جداً في البلاد.. عدا عن حرمان فرنسا من تعزيز مكانتها -العسكرية- في المنطقة، وهي التي كانت حتى أيار الماضي تُمني نفسها بقيمة مضافة فيها، خصوصاً بعد مشاركتها في مناورات بحرية عسكرية إلى جانب اليابان وأستراليا والولايات المتحدة في هذه المنطقة.
ثالثاً، تعميق الانقسام الفرنسي، حيث البلاد مقبلة على انتخابات رئاسية (في أيار المقبل).. وتعميق الضغوط على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمواجهة التيارات القومية، إذ إن إلغاء أستراليا الصفقة مع فرنسا ووجود بريطانيا كمشارك في ذلك يضع ماكرون المؤيد للعلاقات الأطلسية- الأميركية في موقف لا يُحسد عليه، ويقوي موقف هذه التيارات التي تقول «إن الأنجلو لا يمكن الوثوق بهم».. وفي حال كان هناك نوع من الترضية لماكرون وبما يعزز موقفه الانتخابي فإنه قد ينخرط بصورة، وإن غير معلنة في أهداف اتفاق أوكوس.
رابعاً، لا تكف فرنسا عن المطالبة باستقلال أوروبا أمنياً وعسكرياً (وحتى اقتصادياً) عن الولايات المتحدة، وهي فعلياً تقود حملة مكثفة بين الأوروبيين لتحقيق ذلك.. وفرنسا، والاتحاد الأوروبي عموماً، أظهروا إشارات عديدة أنهم غير مستعدين للانخراط في المواجهة الأميركية ضد الصين (ولا ضد روسيا) حتى لو كانوا متخوفين من النفوذ الصيني المتصاعد، ويرون أنهم مستهدفون من الولايات المتحدة مثلهم مثل الصين ومثل روسيا، بل هم أكثر المتضررين من سياساتها.. وهذا بالتأكيد يُزعج الولايات المتحدة التي ترى أن أوروبا بدأت الابتعاد عنها بالفعل، مقابل التقارب مع الصين (وروسيا وإيران).
*** الصراع الأميركي- الأوروبي
خامساً، وبناء على ما سبق، فإن المراقبين يعودون للحديث عن «الصراع الأميركي- الأوروبي» القديم والذي يعود للظهور في كل مرة تكون فيها مصالح الطرفين على المحك (باستثناء بريطانيا طبعاً الشريك التقليدي المستعد دائماً للانخراط في المواجهات والحروب الأميركية) ولأن طبيعة هذا الصراع تتركز بين رأسمالية تقليدية تمثلها أوروبا ورأسمالية مالية (متوحشة) تقودها الولايات المتحدة، فإن أوروبا تجد نفسها أقرب إلى النموذج الاقتصادي الصيني (والروسي.. أوروبا قبلت السيل الشمالي الذي يعد منافساً عالمياً رئيسياً للشركات الأميركية.. أيضاً لا ننسى إيران والاستثمارات الأوروبية الكبيرة فيها خصوصاً الفرنسية).. وبشكل عام تنظر الولايات المتحد إلى فرنسا بأنها هي من يُحرض اقتصادياً باتجاه الابتعاد عن الولايات المتحدة.. أكثر من ذلك تريد فرنسا أن تكون المصالح الأوروبية أولوية، وليست المصالح الأميركية.. كل ذلك يُقلق الولايات المتحدة ويُزعجها في آن.
لقد باتت أوروبا مشكلة، وهي تحتاجها اليوم في المواجهة مع الصين، ووفقاً لما سبق فلن ينفع معها إلا العصا التي رفعها الرئيس جو بايدن الأربعاء الماضي مُعلناً عن اتفاق أوكوس المتضمن إلغاء أهم عقد تجاري عسكري لفرنسا خارج الحدود.. لذلك فإن فرنسا اليوم في عين العاصفة الأميركية حتى تنحني.. فهل تفعل؟
المراقبون يرون أن ما سبق هو أسباب كافية لتضغط على فرنسا حتى تنصاع.. وأنها إذا ما حصلت على تعويضات مرضية عن إلغاء صفقة الغواصات.. وإذا ما حصلت على مكان لها في «أوكوس» فإنها ستقول نعم بالتأكيد.. وهذا هو الهدف الأميركي.. الترغيب بالترهيب.
**من التالي بعد فرنسا؟
قد تكون ألمانيا المقبلة على منعطف تاريخي ما بعد المستشارة أنجيلا ميركل، وقد تكون إيطاليا التي ما تزال تمور غضباً من الخذلان الأوروبي لها في أزمة كورونا.. المهم أن الولايات المتحدة تريد في نهاية المطاف استعادة أوروبا لمواجهة الصين، وتريد ذلك عاجلاً وليس آجلاً.
*** مفاجأة «أوكوس»
هنا لا بد من سؤال: هل أن أوروبا والعالم تفاجأ حقاً باتفاق أوكوس؟
يُفترض ألا يكون كذلك، لأنه من البدهي جداً أن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي، تتفرج على عالم يتفلت من بين يديها.. كان لا بد من التحرك قبل فوات الأوان وقبل خسارة ما بقي معها من أوراق قوة.. وكان لا بد أن يكون هذا التحرك في منطقة جديدة “المحيطان الهادي والهندي” التي كانت حتى الأربعاء الماضي خارج الحسابات الدولية، في أن تكون مركزاً لسباق تسلح جديد.. وليس أي سباق.. سباق نووي هذا المرة.
إذا كان هناك من عنصر مفاجئ، فهو أستراليا التي تخلت عن فرنسا أقرب حلفائها الأوروبيين، وأهمهم تجارياً لها، لتكون رأس حربة في خريطة التحالفات الجديدة التي تريد الولايات المتحدة تشكيلها بسياسات جديدة مع الحلفاء قبل الخصوم.
تمني أستراليا نفسها بأنها ستكون القوة الأولى في المنطقة باعتبارها مالكة لأسلحة نووية وتحت الحماية الأميركية.. وليذهب الحلفاء إلى الجحيم (ستكون أستراليا الدولة السابعة في العالم التي تملك هذا الصنف من الغواصات,”/ 12 / غواصة نووية أميركية”، بعد الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين والهند…وستكون الدولة الثانية -بعد بريطانيا- التي توافق الولايات المتحدة على بيعها هكذا غواصات).
*** مواجهات خارج الحدود
الآن.. يَفترض فريق واسع من المراقبين والمحللين أن سباق التسلح الجديد والنووي في منطقة المحيطين الهادئ والهندي سيقود حتماً في مرحلة لاحقة إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع الصين، خصوصاً أنه لا معلومات حول اتفاق أوكوس، سوى ما يمكن توقعه من عنوانه «شراكة أمنية».. ومما يشي به زمانه ومكانه وأطرافه… والقدم العسكرية الأميركية التي وجدت لها موطئاً متيناً في المنطقة.
فريق آخر يرى أن الهدف قد يكون إظهار القوة فقط.. وفريق ثالث يرى أن لا حاجة لمواجهة مباشرة، وأن زمن المواجهات المباشرة ولى مع الحرب العالمية الثانية، لأن أي مواجهة مباشرة ستجر على الطرفين خسائر كبيرة اقتصادية وبشرية.. ثم لماذا المواجهة المباشرة وهناك ساحات (خارجية) عديدة لها.. هذا بالضبط ما سيحدث، وما على هذه الساحات، وهي معروفة، إلا الاستعداد.