ضجيج باريسي!
فتحت (أزمة الغواصات) بين فرنسا والولايات المتحدة الباب واسعاً حول تراجع مكانة باريس عالمياً وسهولة إقصائها من واشنطن في أي منطقة أو حتى اتفاقية، كما كرست تبعية كل من بريطانيا وأستراليا للبيت الأبيض.
باريس أخذت على حين غرة بل طعنت بالظهر وفقاً لتعبير وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، وكذلك خسرت المليارات بعد إلغاء كانبيرا لصفقة الغواصات معها وعقدها اتفاقاً جديداً يؤمن لها غواصات أميركية ذات دفع نووي عوضاً عن غواصات فرنسا الأقل فائدة وفقاً لكانبيرا، وذلك بموافقة لندن التي كانت وسيطاً وشريكاً بإتمام الصفقة الجديدة.
اتفاق (أوكوس) الثلاثي بين واشنطن ولندن وكانبيرا في المحيطين الهندي والهادئ لخص موقع فرنسا المتقهقر على خريطة الدول الفاعلة، وأكد تراجع حضورها عالمياً، كما أعطى مثالاً جديداً لعدم وفاء واشنطن حتى لأقرب حلفائها, بل إن الطريقة التي صيغ فيها الاتفاق -حيث تم بمنتهى السرية بالغرف المظلمة بين الأطراف الثلاثة- تؤكد حقيقة السياسة الأميركية القائمة على التخلي عما تريد فقط لأجل مصالحها بغض النظر عن هوية إداراتها سواء جمهورية أو ديمقراطية وبغض النظر عن المتخلى عنه سواء كان يصنف حليفاً أو قريباً.
الاتفاق وإن كان إقصائياً لفرنسا بشكل واضح لكن له أيضاً طابع عدائي رئيسي ضد بكين عبر مسارعة واشنطن لتشكيله في تلك المنطقة الإستراتيجية، ومن جهة أخرى يوجه ضربة للاتحاد الأوروبي بالإخلال بمصالحه عبر إبقائه خارجاً، ووضع بريطانيا قطباً للعمل معه بعد فض تواجدها في الاتحاد الأوروبي، أي تقوية شوكتها بوجه الاتحاد وتأكيد أن من يغادر (الأوروبي) سيحظى بمزايا عسكرية وتجارية من واشنطن.
ومن خلال التجارب المختلفة عبر التاريخ، لا يبدو أن الأوروبيين عموماً والفرنسيين خصوصاً يمتلكون الإرادة الفعلية لمواجهة واشنطن رغم الصفعة القوية التي وجهت لباريس، والضجيج الفرنسي الحالي وردود الفعل من سحب السفراء وتأجيل اجتماعات وغيرها ستخف مفاعيله مع الوقت حتى يصبح من الماضي المنسي.
قد لا تغفر باريس لواشنطن الخذلان الجديد الذي سببته لها، لكن اتخاذها موقفاً صارماً دائماً من أنانية واشنطن وتفردها بالقرارات المختلفة أو رد اعتبارها وملياراتها المهدورة لصالح واشنطن لن يكون على قدر الضجيج المثار حالياً.