لن يطول الوقت حتى تجد الحكومة البريطانية نفسها أمام موافقة إجبارية على استفتاء الانفصال الذي تدفع باتجاهه، وبشراسة، حكومة اسكتلندا.
اللعب على الوقت لن ينفع، لأنه لم يعد هناك من وقت، فالاستفتاء قد يجري قبل نهاية هذا العام، أو خلال العام المقبل على أبعد تقدير كما تصرح الحكومة الاسكتلندية..
كذلك محاولات التأجيل لن تنفع، لأن الأحزاب الانفصالية التي حققت فوزاً كبيراً وحاسماً في انتخابات أيار الماضي لن تسمح بتفويت هذه الفرصة، فربما لا يتسنى لها فرصة مماثلة.. (حصلت الأحزاب الانفصالية على 72 مقعداً من أصل 129 مقعداً علماً أنها تحتاج فقط إلى 65 مقعداً لتحقق الأغلبية المطلوبة).
أيضاً محاولات التأثير على توجهات الاسكتلنديين ومواقفهم -كما جرى في استفتاء عام 2014- لن تنفع، لأن أحداثاً كبيراً جرت خلال السنوات السبع الماضية ستجعل من الصعب جداً على الحكومة البريطانية ممارسة التأثير نفسه للحصول على النتائج نفسها، علماً أنه بالكاد فاز معارضو الانفصال في استفتاء عام 2014. أي أنه بالكاد نجت الحكومة البريطانية من خطر التفكك.
*** رهانات لندن الخاسرة
لا يمكن للحكومة البريطانية الاعتماد فقط على مسألة رفضها للاستفتاء حتى تمنعه، إذ إن حكومة اسكتلندا التي تترأسها نيكولا ستورجن (أو الوزيرة الأولى كما تسميها بريطانيا) بإمكانها اللجوء إلى المحكمة العليا لفرض الاستفتاء، وهذا ما تهدد به فعلياً إذا رفضت الحكومة البريطانية إعطاء موافقتها على الاستفتاء.. وعليه تبدو هذه الأخيرة بلا حول ولا قوة، لا تمتلك سوى الدعاء أن يمر أي استفتاء جديد على خير.
ولعل ما نشرته صحيفة «فايننشال تايمز» قبل أيام حول أن بريطانيا وضعت خطط عمل لنقل غواصاتها النووية من اسكتلندا «بعد تشكيل دولة اسكتلندا المستقلة المناهضة للأسلحة النووية».. لعله يعطي صورة واضحة عن صعوبة الموقف الذي تجد فيه بريطانيا نفسها، كما يشير في الوقت نفسه إلى أن بريطانيا مستسلمة لاحتمالية انفصال اسكتلندا، وأنه ليس بيدها حيلة لمواجهة هذا الانفصال، وبالتالي فهي بدأت البحث عن مخارج للمآزق التي سيضعها فيها هذا الانفصال.. بعضها مآزق مستعصية على الحل وستبقى مُعلقة (كما حال أيرلندا الشمالية مع اتفاق بريكست).. وبعضها الآخر سيدفع بريطانيا نحو تدهور اقتصادي كبير.. وبعضها أيضاً ستخسر معه بريطانيا آخر ما تبقى من مكانتها الدولية حتى بالنسبة للولايات المتحدة (وربما مقعدها في مجلس الأمن).
هذه الصورة لا يخفف من قتامتها نفي الحكومة البريطانية لاحقاً لما نشرته فايننشال تايمز، لأن الضرر وقع، ولأن احتمالات أن يكون ما نُشر صحيحاً أكبر بكثير من أن يكون خاطئاً كما يرى البريطانيون الذي يراقبون مسار الأحداث، وكيف تتطور قضية الاستفتاء شهراً بعد شهر، وكيف أن حكومتهم عاجزة عن رفضه.
*** مقومات الانفصال
في أحدث استطلاعات الرأي التي جرت الأسبوع الماضي يتقدم مؤيدو الانفصال بواقع نقطة إلى نقطتين، ومن المرجح أن تتزايد أعداد النقاط في المرحلة المقبلة، ولكن حتى لو بقيت كذلك فهي كافية لإقرار الانفصال، لنذكّر هنا أن استفتاء انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي (بريكست) الذي جرى عام 2016 فاز فيه مؤيدو الانفصال بواقع نقطتين إلى ثلاثة فقط (51،9% مقابل 48،1%) وكانت كافية حتى تتسلح بها بريطانيا بمواجهة الاتحاد الأوروبي وفرض الانفصال عليه.
(ولا بد من التذكير هنا أن اسكتلندا صوتت ضد بريكست، لكن هذا التصويت ضاعت معالمه ضمن عامة المصوتين الذين قالوا لا للاتحاد الأوروبي).
لنلاحظ هنا كيف أن تحليلات المراقبين والمختصين انتقلت -ما بعد فوز الأحزاب الانفصالية في أيار الماضي- إلى مرحلة التساؤل عما إذا كانت اسكتلندا قادرة فعلاً أن تكون دولة مستقلة، بمعنى امتلاكها مقومات الدولة المستقلة، بالسياسة والاقتصاد والدفاع والعلاقات الدولية.. ولوجستياً، وكم سيستغرق بناء الدولة، وكيف ستكون علاقتها مع بريطانيا.. وهل من داعمين خارجيين.. وأي تحالفات ستعقد؟
يعدد هؤلاء عوامل القوة وعوامل الضعف، مع أرجحية لعوامل القوة بالنظر إلى المتغيرات الدولية، وإلى تجارب مشابهة، ستدفع باتجاه انفصال اسكتلندا وإن كانت العملية ستستغرق بضع سنوات ما بعد استفتاء الانفصال.
*** عوامل القوة
أولاً، يبلغ الناتج الإجمالي لاسكتلندا أكثر من 166 مليار جنية إسترليني، أي إن الأداء الاقتصادي جيد.
أما مسألة أن 60% من الصادرات هي لبريطانيا، فلا يرى الاقتصاديون في ذلك مشكلة، إذ إن بريطانيا كانت تصدر للاتحاد الأوروبي أكثر من 50% من إنتاجها ومع ذلك انفصلت عنه، وبالتالي يمكن لاسكتلندا أن تقوم بالمثل، مع افتراض المحافظة على هذه العلاقات الاقتصادية، فليس بالضرورة أن يولد الانفصال حالة عدائية بين البلدين.
ثانياً، لا شك أن انفصال اسكتلندا سيكون محل ترحيب من الاتحاد الأوروبي، من مبدأ معاقبة بريطانيا على «بريكست» وبالتالي من غير المستبعد أن يعمد إلى معالجة المشكلات الاقتصادية التي ستقع جراء الانفصال، ومنها منح اسكتلندا العضوية التي خسرتها بفعل بريكست، أو رفع مستوى الاستيراد منها، ويرى اقتصاديون أنه حتى لو طال الوقت قليلاً قبل أن يتقدم الاتحاد الأوروبي لدعم اسكتلندا بصفة مباشرة (حتى لا يشجع باقي الحركات الانفصالية في دول أوروبية أخرى) فهناك الكثير من الطرق الخلفية التي يستطيع من خلالها تقديم الدعم لها.
ثالثاً، تشكل اسكتلندا ثلث مساحة بريطانيا، وتعد عاصمتها أدنبرة واحدة من أكبر المراكز المالية في أوروبا، وتعد مدينة غلاسكو -أكبر مدنها- واحدة من المدن الصناعية الرائدة في العالم. أما المصائد البحرية فهي ورقة قوة بيد اسكتلندا تستطيع من خلالها مفاوضة بريطانيا من جهة والاتحاد الأوروبي من جهة لتحصل على أفضل العروض الاقتصادية لاستثمار هذه المصائد.
رابعاً، قبل بريكست كانت بريطانيا تجادل دائماً في قضية استقلال قرارها السياسي والاقتصادي، وأن بوسعها اتخاذ القرارات المناسبة لها بعيداً عن الاتحاد الأوروبي وشروطه وقوانينه.. الأمر ذاته ينطبق على اسكتلندا التي تقول إنها تريد استعادة القدرة على التحكم بمصيرها واتخاذ قراراتها بنفسها بعيداً عن بريطانيا وشروطها وقوانينها.. وإذا كانت بريطانيا استطاعت تحقيق الانفصال عن الاتحاد الأوروبي فإن اسكتلندا تستطيع فعل المثل.. وسيكون بمقدورها أن تجد أسواقاً لها في دول الاتحاد الأوروبي، أو أن تؤسس لأسواق جديدة، كما تفعل بريطانيا.
*** عوامل الضعف
أولاً، ستشكل مسألة الحدود وترسيمها، أزمة كبيرة مع بريطانيا، وهذا ما تعترف به حكومة ستورجن صراحة وعلناً، وتحذر في الوقت نفسه من أن بريطانيا ستسعى للتخويف من هذه المسألة وإثارة المتاعب بشأنها، خصوصاً إذا ما مضت اسكتلندا قدماً في مسألة استعادة العضوية في الاتحاد الأوروبي.
في السابق، أي قبل بريكست، لم تكن الحدود لتشكل أزمة باعتبار عضويتهما في الاتحاد الأوروبي وفي السوق الأوروبية الموحدة التي تضمن تدفق السلع والخدمات من دون عوائق أما اليوم وفي حال إنجاز استفتاء الانفصال فإن كل المعاملات التجارية والاقتصادية، بالمجمل، ستشهد تعقيدات كثيرة ما سينعكس سلباً على قوة الاستقلال الذي تنشده اسكتلندا.
مع ذلك فإن فريقاً من المراقبين يرى مخرجاً من هذه الأزمة باعتماد نموذج أيرلندا الشمالية مع بريكست، أي عدم وجود «حدود صلبة على الأرض» أما عن مشكلات التعاملات التجارية وخلافات الحدود فهي بالأساس موجودة ويتعامل معها الاسكتلنديون بصفة دائمة ويستطيعون تجاوزها.. وبالمجمل إذا توافرت النيات الجيدة يمكن حل كل الأزمات -المعروفة سلفاً- والتي ستنشأ أو تتعمق بفعل انفصال اسكتلندا.
ثانياً، يحذر الاقتصاديون اسكتلندا من مسألة أن يطول زمن إجراءات الانفصال، وبما يتيح لبريطانيا أن تلعب على المستوى النفسي والمعنوي، للتأثير على توجهات الاسكتلنديين بتخويفهم من المشكلات التي ستطولهم على الصعيد الشخصي في حال أيدوا الانفصال، وسيستهدف هذا اللعب بشكل خاص الاسكتلنديين الذي يعيشون ويعملون في بريطانيا، ويتضمن ذلك مستواهم المعيشي وتنقلاتهم، وجوازات السفر، والجنسية البريطانية التي سيخسرونها.. حتى بالنسبة لقضاء الإجازات عند عائلاتهم أو أقاربهم في اسكتلندا والتي ستتحول إلى كابوس بالنسبة لهم بفعل التعقيدات الكبيرة التي سيفرضها الانفصال.. هذا إلى جانب الحديث عن عدد السكان القليل في اسكتلندا، والذي سيؤثر بشكل قاس في الاستثمارات والموارد الاقتصادية، وكيف أن تأسيس عملة جديدة سيستغرق سنوات وسنوات بسبب أن بريطانيا ستكون العدو الأول لهذه العملة، وهناك حديث عن نفط الشمال وأن بريطانيا ستستشرس لأخذ الحصة الأكبر منه، واستجرار ما يتبقى لمصلحتها.. إلخ.
ثالثاً، تعتمد اسكتلندا على دعم الحكومة المركزية في لندن بما يتجاوز الـ9% من ميزانيتها، ويرى اقتصاديون أنه سيكون من الصعب عليها تعويض هذا الدخل بعد الانفصال، أقله في السنوات الأولى التي ستكون صعبة جداً ريثما تستطيع تأمين نشاطات اقتصادية إضافية أو إقامة اتفاقات تجارية دولية، ويضيفون: هذا العامل بالذات كان سبباً في فشل استفتاء الماضي، وقد يكون سبباً في فشل الاستفتاء الموعود.
رابعاً، حسب الحكومة البريطانية فإن اسكتلندا تعتمد على بريطانيا في حماية أمنها، كون ترسانة الأسلحة الإستراتيجية البريطانية تتواجد في المياه الاسكتلندية (سلاح الردع النووي) كذلك لن تستطيع اسكتلندا بناء قدرات عسكرية قوية من دون الخضوع لكثير من الشروط والقوانين الدولية باعتبارها دولة ناشئة سيتم وضعها تحت المجهر في كل تحرك داخلي وإقليمي ودولي، فكيف هو الحال إذا ما كان انفصاليو اسكتلندا مقربين من روسيا.
*** أخيراً، لا شك أن كل ما سبق هو مدار نقاش وبحث وجدال كبير متواصل.. هناك مخاوف لدى الاسكتلنديين بالتأكيد، وهذا أمر طبيعي وبدهي، لكنهم بالمقابل لا يبدون متشككين في خيار الانفصال، بل واثقون من إمكانياتهم وإمكانات بلادهم.. هم يعلمون أن بلادهم بمنزلة جوهرة التاج، إنها ركيزة أساسية بالنسبة لبريطانيا التي ستكون الخاسر الأكبر إذا ما فقدت هذه الركيزة لذلك فإن من مصلحتها الاستمرار في كسبها حتى بعد تحقيق الانفصال.. تماماً كما فعل الاتحاد الأوروبي حيال انفصالها عنه، وهذه نقطة يدركها الاسكتلنديون جيداً، يلعبون عليها، وينوون استغلالها بصورة كاملة.