ما تركته «صفقة القرن» وراءها.. يلتقطه بايدن.
لم يكن أحد، أي أحد -حتى أكثر المتفائلين- يتوقع أن تتراجع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن كل ما أقرته «صفقة القرن» على يد صاحبها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وبما يُجرد الشعب الفلسطيني من جميع حقوق وأوراق التفاوض على قضايا الحل النهائي «القدس واللاجئين والحدود» والتي يُفترض أن الاتفاق عليها سيقود إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
هؤلاء المتفائلون لطالما جادلوا في مسألة أن رئاسة بايدن ستكون مختلفة ولو قليلاً عن رئاسة ترامب، كون الأول قدم نفسه دائماً بأنه «أكثر إنصافاً» لحقوق الشعب الفلسطيني.. و«الأكثر اختلافاً مع إسرائيل وانتقاداً لها».
بالمقابل لم يكن أكثر المتشائمين من إدارة بايدن يتوقع أن يلتف الأخير -وقبل أن يكمل عامه الرئاسي الأول- ليُكمل ما بدأه ترامب وبالفجاجة نفسها.. فإذا كان هذا الأخير أسقط القدس من قضايا الحل النهائي، فها هو بايدن يسعى لإسقاط قضية اللاجئين (وحق العودة) باستهداف وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) مُدعياً أنه يُعيد شريان الحياة لها بعد أن قطعه ترامب عنها بداية عام 2018 ونقصد هنا التمويل الأميركي للأونروا.
لم يكن خفياً على أحد أن «إسرائيل» استغلت ما أمكنها من وقت في سبيل أن تسقط قضايا الحل النهائي بالتقادم.. لكن ذلك لم يحدث. ولأن «الوقت الإقليمي» بدأ يداهمها، دون أن ينفعها قطع التمويل الأميركي عن الأونروا، كان لا بد من استكمال ما بدأه ترامب لإسقاط قضية اللاجئين وحق العودة بصورة نهائية، ثم التفرغ لقضية الحدود وإسقاطها، قبل أن يتقدم «الوقت الإقليمي» أكثر فأكثر ويُسقط كل ما ارتكبته اليد الأميركية ضد الشعب الفلسطيني.
* اتفاق سري/علني
لم يكن بالإمكان إبقاء الاتفاق الذي تم توقيعه بين وكالة الأونروا والولايات المتحدة «سرياً» لأن هذا الاتفاق يستدعي إجراءات على الأرض لا بد وأن تثير التساؤلات.. والغضب، وبالتالي لا بد من إجابات أكيدة ومقنعة. هذا الاتفاق الذي تم الإعلان عنه قبل نحو أسبوع، جرى توقيعه منذ الـ 16 من تموز الماضي، وفيه تتعهد الأونروا الالتزام بجملة شروط أميركية «تمس بالوضع القانوني والسياسي والإنساني لقضية اللاجئين الفلسطينيين» مقابل استعادة التمويل (135 مليون دولار أميركي).. وكانت إدارة بايدن أعلنت في آذار الماضي أنها ستعيد التمويل لوكالة الأونروا، كما ستستأنف تقديم المساعدات المالية للفلسطينيين.. مشيرة إلى أنها ستقدم مساعدات مشتركة للأنروا ولتمويل مشروعات تنموية في القطاع والضفة بقيمة 235 مليون دولار.
ما جرى في شهر آب الماضي وقاد إلى الكشف عن هذا الاتفاق، هو توقيف 22 موظفاً وموظفة يعملون في وكالة الأونروا (داخل الأراضي الفلسطينية) وذلك بتهمة «نشرهم آراء سياسية على مواقع التواصل الاجتماعي مُنحازة للشعب الفلسطيني»!
هذا التوقيف أشعل موجة غضب فلسطيني عارم، وضع الأونروا موضع شبهة واتهام، ليثير تساؤلات كثيرة بقيت من دون جواب حتى تم الإعلان قبل أيام عن ذلك الاتفاق السري والذي تلتزم بموجبه وكالة الأونروا بتوقيف من يثبت تعاطفه وانحيازه للشعب الفلسطيني وقضيته، عن العمل لديها، ويكون هذا التوقيف بمنزلة «تبليغ» عن هذا الشخص، وبما يُعرضه للملاحقة والاعتقال على يد الاحتلال الإسرائيلي.
هذا الكلام لا شك صادم جداً، فهل وضعت الأونروا نفسها في هذا الموضع لتتخلى عن مهمتها الإنسانية السامية، وتتحول إلى «مخبر» لدى إسرائيل والولايات المتحدة، كما وصفها الفلسطينيون في بياناتهم؟
* المعنى والمغزى
قبل الإجابة لنعرض أولاً ما جاء في ذلك الاتفاق السري الذي تناقلته وكالات الأنباء.. والتعليقات والتصريحات حوله.
أولاً: يربط اتفاق استمرار التمويل بـما يسمى «ضمان الحياد» في عمل الأونروا وموظفيها ومنتفعيها من اللاجئين (وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام قطع المعونات عن المحتاجين من اللاجئين وإيقاف بعض الموظفين، بتهم فضفاضة كما سبق وأوقفت الموظفين الـ22 السابق ذكرهم).. (وهذا يتناقض تماماً مع التفويض الممنوح للأونروا من الأمم المتحدة وكذلك مع القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، ويحولها إلى أداة سياسية– أمنية في يد دولة أجنبية).
ثانياً: يمنح الاتفاق الولايات المتحدة شراكة كاملة مع الأونروا، فهو يعطي واشنطن الحق في مراقبة أداء الوكالة الأممية والتدخل في طبيعة عملها (أي الحكم على أدائها طبقاً للمفهوم الأميركي وليس طبقاً للقانون الدولي) كما يتيح الاتفاق الاتصال مع المانحين ومراقبة أدائهم والتدخل في المنح التي يقدمونها وكيف ستصرف وفي أي قطاعات، ومن سيستفيد منها (وهذا يعني وضع تمويل الأونروا تحت سيف الشروط الأميركية وقطع التمويل في حال عدم الرضوخ للرغبات الأميركية – الإسرائيلية).
ثالثاً:يفرض الاتفاق على الأونروا الالتزام بالإبلاغ عن أي “انتهاكات” للحياد في الوقت المناسب، ومعالجة هذه “الانتهاكات”، وتحسين قدرة الوكالة على مراجعة الكتب المدرسية والمواد التعليمية لضمان “الجودة” التي تستخدمها لتحديد واتخاذ التدابير لمعالجة أي محتوى يتعارض مع الحياد المطلوب أميركياً (هذا يعني تجريد المناهج الفلسطينية من أي محتوى تنظر إليه أميركا وإسرائيل على أنه تمييزي أو تحريضي ضد الكيان المحتل مثل الإشارة إلى فلسطين التاريخية).. (ولن يتم التعاطي نفسه مع المناهج الإسرائيلية التي تفيض بالكراهية والتحريض لقتل الفلسطينيين).. (وهذا يشكل انتهاكًا لأساس عمل الأونروا الذي يمنحها الحرية الكاملة في رسم إستراتيجياتها ووضع برامجها بعيداً عن التدخلات السياسية للدول الأعضاء وللدول المانحة).
رابعاً: تتعهد الأونروا بعدم استخدام أي جزء من التمويل الأميركي لتقديم المساعدة إلى أي لاجئ تلقى تدريباً عسكرياً.. وفي حال اعتقدت الولايات المتحدة أن الأونروا لم تلتزم بذلك، يحق لها قطع التمويل عنها فوراً (وهذا تجاوز لحقيقة أن المساهمات المالية للدول المانحة هي تبرعات طوعية غير مشروطة، وأي التزام يترتب على الأونروا نتيجة مثل هذه الاتفاقات فهو غير قانوني).
خامساً: الاتفاق يُلزم الأونروا بالكشف عن طبيعة الدورات التدريبية التي يُفترض أن تُعطى للموظفين، وتقديم تقارير دورية عن الحيادية، وعن كيفية صرف المبالغ المالية الممنوحة لها، والإفصاح عن المبالغ المالية التي ستحصل عليها.
سادساً: الاتفاق يُلزم الأونروا بإجراء عمليات الفحص والتدقيق لموظفيها والمنتفعين من خدماتها والمتعاقدين معهم والموردين والمانحين من غير الدول، كل 6 أشهر. وأن تطول عمليات الفحص والتدقيق منشورات موظفيها على وسائل التواصل الاجتماعي للتأكد من التزامهم بـ «الحيادية».
سابعاً: على الأونروا أن ترفع تقاريرها حول كل ما سبق بشكل دوري إلى الولايات المتحدة وليس إلى اللجنة الاستشارية في الأونروا كما هو منصوص عليه في قرار تأسيس الوكالة عام 1948 (أي عليها القيام بدور الوكيل الأمني الذي يراقب ويرصد ويصنف أصحاب الحق بتلقي المساعدات والإبلاغ عن المُخلين بالحيادية، وتزويد الإدارة الأمريكية بالأسماء وإبلاغهم بالعقوبات المتخذة، كذلك على الوكالة رفع تقارير بتفتيش مراكزها في كافة مناطقها لأربعة مرات، بدلاً من مرتين، في السنة).
* الهدف النهائي
والسؤال هنا.. في المحصلة النهائية ماذا يعني كل ذلك، وما هو الهدف الذي تريد الولايات المتحدة و”إسرائيل” تحقيقه؟
الهدف الأساسي والذي تسعيان إليه منذ عقود هو إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني عبر تقليص أعداد اللاجئين الفلسطينيين في إطار عملية فرز تزويرية تضليلية تحدد من هو اللاجئ وفق مبدأ أن اللاجئ هو فقط من يحصل على مساعدات من الأونروا (أي من تنطبق عليه الشروط الأميركية- الإسرائيلية).
وإذا ما تم تطبيق شروط الاتفاق فإن أعداد اللاجئين الفلسطينيين ستتقلص بالفعل إلى بضع مئات، ولن يكونوا بالملايين كما هم اليوم (6 ملايين لاجئ).. ما يعني انتفاء الحاجة لوجود وكالة أممية خاصة بهم، وبالتالي إلحاقهم بمفوضية اللاجئين العامة التي تُعنى باللاجئين حول العالم من مختلف الجنسيات والأعراق والدول، وبذلك يتم التخلص من قضية اللاجئين الفلسطينيين الذين التزمت الأمم المتحدة بهم «حتى يتم حل قضيتهم وعودتهم إلى وطنهم فلسطين».
*مسؤولية من؟
الآن.. هل يمكننا لوم الأونروا ونعتها بـ «العميل» و«المخبر»..هل كانت الأونروا مجبرة على توقيع مثل هذا الاتفاق بدعوى العجز المالي؟
لا أحد ينكر أن الأونروا -طيلة السنوات الخمس الماضية- ظلت ترفع صوتها بنداءات عاجلة طلباً للمساعدات التي هي حق لها ضمن قرار تأسيسها، ولكن «لا سميع ولا مُجيب» لا بل إن دولاً عديدة سارعت إلى تخفيض مساعداتها بعد قطع التمويل الأميركي حتى وصلت الأونروا إلى حافة الإفلاس، ولتجد نفسها مجبرة على إسقاط الكثير من الخدمات التي كانت تقدمها، والاستغناء عن عشرات الموظفين الذين لم تستطع دفع رواتبهم.
ولا أحد ينكر أن الأونروا منذ تأسيسها كانت عرضة لمحاولات الابتزاز والاستغلال، خصوصاً من الولايات المتحدة التي تريد تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، باعتبارها أحد أبرز صور النكبة الفلسطينية، وتذكر على الدوام بمأساة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج على يد الاحتلال الإسرائيلي.
الجميع يدرك ذلك، وفي مقدمتهم القائمون على رأس الأونروا، وفي هذا يقول مفوضها العام فيليب لازاريني: نحن أكثر منظمة إنسانية تعمل في أجواء مُسيسة للغاية.
ربما -من وجهة نظر القائمين على الأونروا- أن لا ضير من مثل هذا الاتفاق طالما أنه يُبقيها قائمة، وإذا كان لا بد من لومها، فهي تتحمل بعض اللوم، لكن اللوم الأكبر يقع على الولايات المتحدة.. وعلى الدول التي وقفت متفرجة، من دون أن تمد يد العون لها.