أمس كأنه اليوم، يكفي أن نعود إليه.. نقرأه.. لنعرف ماذا يجري في حاضرنا، وماذا يُخطط لمستقبلنا؟
ولأن في العودة ضرورة، وفي الإعادة إفادة، ينبري الكثير من الكتاب والباحثين والمفكرين -خصوصاً من عايشوا هذا «الأمس»- ليقدموا لنا «هذه العودة.. والإعادة» مع خلاصة تحليلاتهم ودراساتهم، في كتب ومؤلفات هي وثائق للحقيقة والتاريخ وللأجيال المقبلة، ومنعاً لأن يكون التاريخ نهباً للمعتدين والمتخاذلين والخونة والمتآمرين.
وفي الصفوف الأولى تبرز دائماً الدكتورة نجاح العطار، نائب رئيس الجمهورية، في سلسلة كتب ومؤلفات، لتعرض لنا أحداثاً ووقائع عاصرتها، وكانت شاهداً حيّاً عليها، في سورية خصوصاً، وفي مجمل المنطقة العربية وجوارها عموماً لاسيما في عقدي السبعينيات والثمانينيات، حيث كانت سورية والدول العربية في فترة النهوض والبناء ما بعد الاستقلال، وحيث هذه الأحداث والوقائع كانت تستهدف هذا الاستقلال لإسقاطه، وتالياً إسقاط عملية النهوض والبناء.
أحدث كتب الدكتورة العطار، كان الجزء الثاني من كتاب «أيام عشناها.. وهي الآن للتاريخ». وكان الجزء الأول منه صدر في شهر حزيران الماضي. وكلا الجزأين من منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب– وزارة الثقافة، وتصميم الغلاف للفنان بديع جحجاح، ويقع الجزء الثاني في 304 صفحات.
وفي هذا الجزء تستكمل الدكتورة العطار نشر «نثر» من مقالات كتبتها خلال النصف الثاني من السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات، لتضع إصبعها على الجرح، خصوصاً في مقالات عقد الثمانينيات حيث لا يماثل الخطر الذي كان يتهدد الأمة، طولاً وعرضاً، سوى الخطر الذي يتهددها اليوم، مع فارق حجم الإرهاب والترهيب الذي توحش وتغول على يد الولايات المتحدة الأميركية.
لكن وبالتوازي، فإن أياً من هذه المقالات، لم يتضمن بالمطلق لغة هزيمة وإدبار، أو قنوط ويأس، أو مهادنة وممالآت، أو تسليم بثوابت الوطن وحقوقه ومعه حقوق الأمة.. صحيح أنها مقالات تحدثت فيها الدكتورة العطار عن وقائع جسام وأحداث مؤلمة، إلا أن عنوانها العريض هو الصمود والثبات.. والمواجهة، وتعزيز إرادة القتال وتحقيق النصر، ولأجل هذا النصر ولأجل نهضة الأمة سعت سورية دائماً -ولا تزال- لتحقيق التضامن العربي طالما أن العدو واحد، والمصير واحد.
يتضمن الكتاب بعد «الإهداء» 22 عنواناً مع ملحقين بعنوانين، أحدهما عن ثورة الثامن من آذار التي شكلت منعطفاً تاريخياً، ومفترقاً بين عهدين «لتفيض على الآتي وتقيم فيه نقيض ما كان في الماضي، فتبدل الأشياء تبديلاً وتغير المصائر تغييراً.. تحولات كبرى أقمناها وأشدناها وأرسيناها».
والعنوان الثاني عن الحركة التصحيحية (في ذكراها الـ14) ومنجزاتها على المستوى الثقافي، وذلك في مقابلة أجرتها الدكتورة العطار مع صحيفة «تشرين» عام 1984.
وكان من البدهي والمفهوم أن تتطرق أغلب العناوين لتطورات لبنان الجسيمة، التي سادت وسيطرت في عقد الثمانينيات، والتي كان مُخططاً لها أن تنعكس وبالاً وأهوالاً على سورية وعموم الدول العربية، حيث إن المخطط لم يكن تدمير لبنان فقط، بل تحويله إلى ممر للتآمر على كل الدول العربية خصوصاً سورية، أي استهداف سورية تحديداً وحصراً في نهاية الأمر (بمساندة نوعية الطبقة التي كانت تحكم لبنان آنذاك) وهذا ما عملت سورية وقائدها المؤسس حافظ الأسد على إسقاطه، ونجحت في ذلك.
ففي مقال حمل عنوان «بعض أهداف الانسحاب الجزئي الإسرائيلي من جبل لبنان» تقول الدكتورة العطار: «حافظ الأسد قائد متمرس يستند إلى نظرية علمية ويعرف كيف يطبقها بصورة خلاقة.. نقطة البدء عنده أنه يعرف المستقبل لمن ومعنى أن نناضل حتى النفس الأخير كي نذود عن القضية ونعلم أولادنا من بعدنا كيف يكون الدفاع عن القضية.. وعلى هذا لم نرفض مبدأ الدبلوماسية لكننا مارسناها بالاستعداد للحرب في آن.. ولم نقطع الحوار مع أحد لكننا في أي حوار كنا نستند إلى وحدة شعبنا ودعم أمتنا وتأييد أصدقائنا وثبات مواقفنا وإلى إرادة القتال والتمسك بالخيار العسكري.. لذلك لم يستطع أي محاور أن يستضعفنا أو يفرض ما لا نريده علينا، فقد كانت كل الأوراق القوية في أيدينا وستظل في أيدينا وهذا هو السبب في صلابة موقفنا».
وفي مقال بعنوان «بعد انتصار التيار العسكري الأميركي الذي عبرت عنه الأساطيل.. هدف الطبخة الأميركية: ضربة خاطفة لسورية» تقول الدكتورة العطار: ثلاثة أمور تريدها أميركا في الشرق الأوسط، الأول مساندة حكم الكتائب في لبنان إلى آخر مدى لأنها بهذا الحكم فقط تستطيع البقاء في لبنان.
والثاني، التمسك بالاتفاق اللبناني- الإسرائيلي وإلزام الحكم الكتائبي به.
والأمر الثالث هو محاصرة سورية بصورة مستمرة.
وفي مقال تحت عنوان «على هامش الحوار الوطني اللبناني في جنيف» تقول: في المنطقة خطر وحيد هو الخطر الأميركي- الإسرائيلي والعرب يعرفونه.. الحرب إذا اندلعت في هذه المنطقة فلن تظل محصورة فيها، وحتى لو ظلت محصورة فيها فإن قوى كثيرة ستنزف، وفي مقدمتها أميركا».
يشار هنا إلى أن الدكتورة العطار بدأت كتابها بمقال عن مجزرة صبرا وشاتيلا، تقول فيه: «لا يقولن أحد إنني في منجى.. الغزو يولد الغزو ما دام لم يُردع .. والمذبحة تجر المذبحة إذا لم تُوقف.. والعدوان يُفرخ عدواناً إذا لم يلجم». وتضيف: «سورية مع كل المناضلين في خندق واحد وفي الصفوف الأمامية لجبهة واحدة عربية بعرض الأفق، ومن هذا المنطلق فقد أدينا في لبنان ما كان واجباً علينا، ففي بيروت صمدنا مع الصامدين كتفاً إلى كتف، وفي جبال لبنان قاتلنا بضراوة، وحين غصّت الحلوق باليأس جلونا كأس الأمل وترجمنا ذلك إلى خيار وإلى ميزان وإلى دبابة ومدفع وصاروخ».
وفي الكتاب مقالات أيضاً عن «مدارس أبناء الشهداء » كصرح إنساني شيده القائد المؤسس حافظ الأسد وبما لم يسبقه إليه أحد. ومقال حول ثورات الشعوب، وثالث حول القضية الفلسطينية، وعدة مقالات متتالية حول سورية وتطوراتها وظروفها في عقد الثمانينيات.. وكلها مقالات قيمة في العرض والتحليل وفي الوقائع التي توثقها، وأيضاً في اللغة القوية/الجريئة.. الواضحة والسلسة في السرد والعرض وتسمية الأمور بمسياتها.. لأنه إذا ما كنت تكتب للحقيقة وللتاريخ، فالأمانة والمصداقية والموثوقية لا بد أن تكون عنواناً في كل كلمة وجملة.
وكما ذكرنا آنفاً فإن هذا الكتاب الجديد للدكتورة نجاح العطار «أيام عشناها.. وهي الآن للتاريخ» هو حديث تاريخ بلغة حاضر، لأن التاريخ غالباً ما يعيده نفسه، ونحن في المنطقة العربية أكثر من يدرك ذلك وأكثر من عاشه وما زال يعيشه.. والأهم من كل شيء أن بمقدرونا أن نمنع هذا التاريخ أن يعيد نفسه عندما نكون يداً واحدة على الساحة العربية شعوباً ودولاً.